الفرار
ما إن سمعنا الأمر بالإنسحاب حتى كان كل واحد منا يجرى دون أن يفكر فى الأمر جريت بسرعة وركبت إحدى الناقلات مع الأخرين وسارت بنا ونحن ننظر فى كل اتجاه خوفا من مجىء طائرات العدو أو جنوده كان الهدف هو النجاة من الموت وفى الطريق تعطلت الناقلة فنزلنا وجرى كل واحد منا وجريت وجريت حتى تورمت قدمى ورغم شدة لهاثى ونتيجة آلام القدمين رميت بالحذاء وظللت أجرى وأجرى وأنا أسمع دوى المدافع وأزيز الطائرات دون أن أرى شىء كل هذا جعلنى أزيد من سرعة جرى ولم أفكر فى التوقف أبدا حتى ولو للأكل أو شرب الماء الشىء الذى كنت أتوقف لفعله هو أن أرمى ما معى رميت السلاح والزمزمية والملابس الخارجية العليا وخزنة الطعام المعلقة فى الملابس ظللت أجرى دون أن انتبه أن النهار ذهب وجاء الليل وفجأة سقطت أرضا حاولت التحرك فلم أقدر إلا على الحركة بصعوبة بالغة فأويت لصخرة احتمى بها ونمت جانبها وعندما قمت أحسست بالآلام فى كل جسمى ولكن الرغبة فى الحياة جعلتنى أقاوم الآلام وأتناساها وقمت أجرى متتبعا الشمس التى مالت للغروب وتوقفت من شدة الألم فى عدة أماكن ومن حسن حظى أنى وجدت ماء فى بعضها وأيضا بعض الحشائش والنباتات الصحراوية فأكلت منها مرغما فهى ذات عصارات مرة كان لابد من الأكل وإلا فقدت حياتى ومر يومان والثالث والرابع حتى ظهرت أمامى القناة ووجدت نفسى أرمى نفسى فى الماء وأعوم بكل قوة وفى لحظة تخيلت نفسى وأنا أموت غرقا وجعلنى هذا التخيل أسبح بسرعة كبيرة لم أتخيل فى عمرى أن أسبح بها ووصلت فى النهاية للضفة الغربية للقناة وارتميت على الشاطىء ونزل على النوم فلم أصحو إلا بعد مرور وقت طويل ولما صحوت بدأت المشى بصعوبة بالغة وظللت أمشى وآكل مما يقابلنى من حشائش الأرض حتى لقيت بعض الناس الذين ساعدونى وعدت للبيت بعد أن رقدت فى المستشفى عدة أيام لم أكن أفكر فيها إلا فى زوال الآلام الفظيعة وفى البيت قفلت على نفسى حجرة النوم وعندما رقدت على السرير بدأت أفكر فيما حدث ما الذى جعلنا نقوم بالهرب دون تفكير فى أن نحارب ؟إننا أصبحنا فجأة نسوان فالمرأة هى التى لا تحارب ونحن لم نحارب فنحن نسوان الرجل يدافع عن الأرض ولكننا لم ندافع فقد اغتصبنا العدو عندما اغتصب أرضنا فعرض الرجل هو الأرض التى يدافع عنها إذا نحن لسنا رجالا لقد داهمتنى خرافة كونى امرأة ولذا تحسست عضوى الذكرى إنه إحساس رهيب أن يكون الرجل فاقد لشرفه الممثل فى الأرض مثل المرأة الفاقدة لشرفها الممثل فى عرضها وبزغت فى نفسى فكرة طلاق زوجتى لأنى أصبحت امرأة مثلها وعندها دخلت على قلت لها أنا امرأة ولذا سأطلقك فقالت بحنو بالغ أنت رجل وسيد الرجال فضحكت ضحكة مكتومة ساخرا من نفسى وقلت وهل يوجد فى بلادنا رجال أصلا ؟لم أخرج من البيت أياما خوفا من أن يقول لى أحد عواد باع أرضه على طول وعرضه يا ولاد وعلمت فيما بعد أن الجعجاع الكبير تنحى عن الحكم بعد أن رمانا فى القناة بعد أن وعدنا برمى اليهود فى البحر وعلمت أن الجماهير خرجت تطالبه فى البقاء فى الحكم فهل كانت الجماهير حقا ؟أعتقد أنهم رجال الإتحاد الإشتراكى والمنتفعين ببقاء القيادة فى الحكم ولو كانت الجماهير فهى تستحق الهزيمة فعلا ونحن نستحق الهزيمة فعلا ففى أى عصر وفى أى دولة يبقى الخونة على العروش لقد سمعت فيما بعد من الناجين من آتون الحرب مع اليهود أقوالا تجعلنى أتمنى لو كنت امرأة فعلا فقائد سلاح الإشار يقول للجندى أنا داخل أنام لو جه حد حتى لو ربنا يصحينى ساحطه فى الزنزانة هل هناك كفر أكثر من هذا ؟لم نكن ذاهبين للحرب بل لإستعراض العضلات كنا مثل الفيل البطىء الحركة الذى زعم فى الحكاية الخيالية أنه سيقتل كل النمل فما كان من النمل الصغير إلا أن صعد لجسم الفيل ودخل فى آذانه وأنفه فجعله يقوم بالجرى ويخبط رأسه يمينا ويسارا حتى وجد نفسه فى نهاية الأمر مرميا على الأرض من الألم والتعب الذى تسبب فيه النمل كنا مثل عرب الجاهلية فى غارة وهمية هجومية ثم عدنا هاربين عندما وجدنا خيالات على أرض الصحراء لم يفكر أحد فينا ساعة الإنسحاب أننا لا يجوز لنا الإنسحاب حتى لو أمرتنا القيادة لا يجوز الإنسحاب فالجندى يذهب للحرب وهو يعرف أنه مقتول أو منتصر وفى الإسلام لا يجوز الفرار وهو الإنسحاب وإنما الجائز هو القتال حتى الموت ألم يقل الله "ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير "لو فكرنا ساعتها وحمل كل منا سلاحه وقاتل أعتقد أن النتيجة كانت هى بقاء الوضع على ما كان عليه لو فكرنا ساعتها فى القتال فلم تكن الطائرات لتهزمنا مهما قامت بغارات فالقتال ليس بالسلاح وإنما بالرجال ولكننا لم نكن فى تلك اللحظات رجال إن من قتلوا بسبب الهروب غير المنظم لو كانوا حاربوا لكان أشرف لهم ولو قاتلنا ما قتلت الآلاف المؤلفة نتيجة جنون أو خيانة القيادة إن النكسة كانت غضب الله المصبوب على رءوس الكل وهل يغضب الله على الصالحين ؟لا لم نكن صالحين أبدا فالبلاد كانت وكرا لكل الفواحش التى سمعنا عن بعضها ولم نسمع عن البعض الأخر فلقد حرصت القيادة الباقية على تشويه من طردتهم من رحمتها رغم أنها لم تكن أقل سوء منهم لقد كنا كلنا خونة فى تلك الحرب القيادة سبقتنا للخيانة بإصدارها أمر الإنسحاب ونحن خنا الأمانة عندما أطعنا القيادة بالإنسحاب