وجدت أنه لا فائدة من الجدال مع هذا الرجل فعملت بنصيحة القائل لا تجادل أحمقا فقلت له السلام عليكم وانصرفت للبيت وفى الطريق قابلت على بن بكر الخارجى فسلمت عليه فرد السلام وقال لى :لقد لبس صاحب أبيك خرقة زرقاء فأخرجت زفيرا حارا من فمى وقلت هداه الله وإيانا للحق فقال على يقولون أن الخرقة عند المريد الصادق حاملة ريح الجنة فقهقهت وقلت إنها غالبا تحمل صاحبها للنار فهز على رأسه وقال ألا تنصحه بالبعد عن القوم الذين هم على أنواع فمنهم أصحاب المرقعات والجوع والذكر ومنهم أصحاب ملأ الكروش والتنبلة والقعود فى التكايا والخوانق فقلت له ونحن أيضا بنا عيوب كثيرة أولها أننا سمحنا بوجود أمثال هؤلاء فى بلادنا الذين حرفوا الدين مع غيرهم مما سمح لغيرهم من أهل الأديان الأخرى بإحتلال بلادنا وتدمير الدولة الإسلامية منذ قرون ووضع على يده على كتفى وقال الإسلام بخير يا صديقى فنظرت لوجهه وقلت الإسلام بخير ولكن من يدعونه ليسوا بخير نفوسهم بعيدة عن طاعته مع أن نيات الكثير منهم خيرة
سرت أنا وعلى فى طريقنا لعمنا إسماعيل وفى الطريق سمعنا بوق الخطر يدوى وبعد قليل سمعنا المؤذنين على مآذن المساجد ينادون حى على الجهاد
على الفور اتجهت لبيتنا وانطلق على لبيتهم وأحضرت السيف والرمح والقوس والسهم وإنطلقت لأسوار المدينة فوجدت العسكر ومعهم بعض الأمراء الذين بدئوا بتوزيع العسكر والجند والمتطوعين على الأسوار وكان نصيبى أنا وبعض المتطوعين الجانب الشرقى للسور وبدأ أحد قادة المئات يلقى علينا النصائح :
لا تضربوا العدو بالسهام إلا عندما يقترب من مرمى سلاحكم من لم يجد سهما فليقذف برمح ومن لم يجد فليقذف بحجر، أى سلم يوضع على السور اقلبوه بمن عليه من كان معه خرقة قديمة فليغمسها فى النفط ثم يشعلها ويضعها فى السهم ويقذفها على خيام العدو .
بعدها انصرف القائد لموضع أخر وبدأت أتفقد المكان فوجدت أن السور لن يتحمل الضربات القوية للمنجنيق فى بعض المواضع وكانت الحسنة الوحيدة فيه هى كثرة الفتحات الصغيرة بطول وعرض السور فقد كانت تسمح لمن فى الداخل بضرب من فى الخارج وإيقاع أى سلم يوضع على الجدار وعدم دخول من بالخارج منها فقال زميلى فى الموقع عبد بن شكرى الأسوار لا تحمى المدن أبدا وإنما يحميها العدل ،إن من يدافع من خلف الأسوار يكون خائفا والخوف نصف الطريق للهزيمة فقلت هيا قل ما عندك فقال الحل هو الهجوم على العدو خارج الأسوار فهذا يشل تفكيره ويجعله يتخبط ولا يهاجم المدينة إلا بعد أن يقضى على المقاومة خارجها فسأل السيد بن عبد الحميد يعنى ماذا نفعل بالضبط ؟فقال عبد نكمن للعدو فى المزروعات ونقتل منهم من نقدر عليه ونحرق خيامهم إن استطعنا ونسمم دوابهم قلت أنا معك
وارتفعت أصوات عشرات الشباب فاتفقنا على تقسيم أنفسنا لمجموعات تقوم كل مجموعة بعمل ما وفى جنح الظلام خرجت مع عبد وخمسة أصدقاء ومعنا بعض الأسلحة وقدور النفط وسرنا بين المزروعات حوالى ساعتين فوجدنا معسكرا للعدو فى مرمى النظر والسلاح فسرنا ببطء وكل واحد ببعد عن الأخر حوالى 20 ذراعا ولما وصلنا لمكان الخيل لم يكن هناك سوى خمسة جنود يحرسونها فتكفل كل واحد منا بقتل جندى وأما أنا وعبد فانطلقنا فقطعنا قيود الخيل من مرابطها ثم وضعنا فى طعامها سما قاتلا حتى إذا أعادوها فأكلت تموت وبهذا يتعبون من السير ومن حمل ما كانت تحمله من مؤن وسلاح ثم جرينا بسرعة ولما تجمعنا كانت حركة الخيل وهى تجرى فى كل إتجاه قد أحدثت بعض الفوضى فى المعسكر ومن ثم ذهبنا لجهة أخرى من المعسكر وسنحت لنا الفرصة فأشعلنا النار فى بعض الخرق المغموسة فى النفط وقذفناها على الخيام فاشتعلت النيران فجرينا بأقصى سرعة نحو سور المدينة وانطلق خلفنا بعض جنود العدو ولكنهم لما وجدوا أنفسهم قد اقتربوا من المدينة عادوا أدراجهم خوفا من أن تكون هناك كمائن تنتظرهم وقبل الفجر بقليل وصلنا ونحن فى غاية التعب لمكاننا فى السور ففتح لنا الأصدقاء الباب فدخلنا ونحن نجر أرجلنا بصعوبة بالغة وألقينا أنفسنا على الأرض جانب السور فنمنا ولم نشعر بشىء إلا والشمس تضرب بأشعتها فى أجسامنا فقمنا وأحضروا لنا بعض الطعام فأكلنا وقمنا نتوضأ وصلينا وخرجت المجموعة الثانية فى وقت الظهر على أساس الضرب فى وقت لا يمكن توقعه وهو وضح النهار كانت الفكرة أن يخرجوا بالحمير وعلى ظهر كل واحد غبيط فى أسفله السلاح وفوقه الردم واقتربت المجموعة من معسكر أخر للعدو وبدئوا العمل فى الحقول بعد أن أنزلوا الردم وأخفوا تحته السلاح وفى وقت تغيير الحراس بدأ ضرب المعسكر بقدور النفط والسهام الحارقة وفى دقائق كانوا قد أنهوا مهمتهم وعادوا بسرعة على ظهور الحمير وكانت الإصابات فى المجموعة خمسة رجال جرحوا بجروح مختلفة ولم يكن هناك قتلى وفى الليل عاودت مجموعتنا العمل وخرجت مجموعات أخرى وفى هذه المرة أخذنا الجانب الغربى للمدينة حيث يوجد تل غير مرتفع كان خلفه معسكر للعدو وكانت الخطة هى تدمير مؤن العدو وكان سبيلنا لهذا هو لبس ملابس مشابهة لجنود العدو ولما اقتربنا من مكان الحرس كان معنا زجاجات خمر أضفنا لها بعض المرقد وبدأنا نتمايل ونتظاهر بالسكر أمام الحارسين فقال أحدهم لنا ألم تخافوا من أن يقتلكم أحد خارج المعسكر ادخلوا ودخلنا وناولناهم زجاجات الخمر دون أن نتكلم وظللنا نسير متظاهرين بالسكر حتى توغلنا داخل المعسكر فبحثنا عن مكان المؤن حتى وجدناه وبجوارها كانت تقف المنجنيقات وقد اقتربنا من بعض الحرس وعرضنا عليهم الخمر فشربوا وبعد ساعة تقريبا كانوا قد ناموا ومن ثم بدأنا فى إشعال الحرائق فى كل مكان عند المؤن والمنجنيقات ومن ثم اختلط الحابل بالنابل فى المعسكر وحاول كل واحد منا الخروج من المعسكر كل حسب مقدرته وكانت النتيجة هذه المرة خسارة اثنين من المجموعة استشهدا وتكررت عمليات الكر والفر ليالى عدة وكل هذا كان بعيدا عن قادة العسكر وعن الأمراء الذين لم يكونوا يحسنون سوى ظلم خلق الله وإنفاق الأموال على ما يغضب الله وأما الحرب الحقيقية فهم لا يخوضونها إلا من وراء أسوار فقط ومن ثم كانت الهزائم تتوالى وكل يوم كانت مساحة دولة المسلمين تقل وتنقص .
وفى إحدى الليالى ذهبت للبيت مع صديقى محمد بن عبد الرحمن لإحضار بعض الحاجات وبعد أن أحضرنا ما نريد سرنا فى طريقنا لمكاننا فى السور فقابلنا سهل الصوفى الذى هرب لداخل المدينة لما وجد العدو النصرانى يقترب من عشته فقلت له ألا تحضر معنا للجهاد؟فقال يا بنى كل الثغور مجتمعة لى فى بيت واحد والباب مردود على فقال محمد لو كان الناس كلهم لزموا ما أنت عليه اختلت أمور المسلمين وانهزموا فانتصر عليهم الكفار فلابد من الجهاد فقال سهل لو كان الناس كلهم لزموا ما أنا عليه وقالوا فى زواياهم على سجاداتهم الله أكبر انهزم الكفار فتحرك محمد جهة سهل لضربه فقلت له وأنا أدفعه بعيدا عنه اتركه الآن فلا حاجة لنا فى أذاه فقال محمد لماذا لم تتركنى أقتله فنتخلص من المثبطين للعزائم الجالبين للهزائم ؟فضحكت وقلت لا يجوز قتل المجانين فقال محمد هل هو ممن يقولون ارتفاع الأصوات فى بيوت العبادات بحسن النيات وصفاء الطويات يحل ما عقدته الأفلاك الدائرات ؟لم أتمالك نفسى من الضحك وقلت أنه ممن يقولون أيضا من الناس أناس لو ارتفعت حواجبهم لقضيت حوائجهم .
وصلنا للسور وبدأت المجموعات تتكاثر وتتنافس فى الخروج لإحداث أكبر قدر من الخسائر فى العدو وبدأ العدو تحت ضغط المجموعات يتراجع وبعد أن كان ينوى الهجوم على المدينة بدأ فى الإنسحاب من مواقعه تدريجيا ورغم هذا كان عدد الشهداء يزداد كل يوم بسبب إقدام المجموعات على مهاجمة العدو والإلتحام معه وبدأت المجموعات تتجمع وتلتقى مع الفقيه ابن عبد العليم الذى كان يثير فى نفوسهم الرغبة فى الجهاد وهزيمة العدو وبدلا من أن يكتفى بإنسحاب العدو من محيط المدينة طالبهم الفقيه أن يهاجموا العدو ليأخذوا ما اغتصبه من المدن الأخرى وبالفعل كونت المجموعات فرق وبدأت أساليب الهجوم تتبدل من مكان لأخر فمن التنكر فى زى تجار وزى قساوسة ورهبان للتنكر فى زى الفلاحين وفى زى جنود العدو إلى مهاجمة القوافل التجارية للعدو وبدأ المتنكرون فى دخول المدن وتحريض الأهالى على طرد الغاصب وفتحوا أبواب الأسوار ليلا وبدأت المجموعات فى الخارج فى دخول المدن وقتل الأعداء وبدأ شباب المدن فى تكوين مجموعات مماثلة وبدأ العدو يتراجع ويترك المدن المغتصبة وسعى ملكهم لتجميعهم لخوض معركة كبرى ضد من ظنهم أنهم الطاردين لجيشه وهم الأمراء وعساكرهم وكان بهذا يعيد السنة التاريخية التى توقف مسيرة دولة على معركة ولكنه لم يجد من يخوض المعركة الفاصلة وإنما وجد جيوشا صغيرة فى مواقع عدة كثيرة وفى أزمنة متقاربة جعلت جيشه يترنح ويفقد توازنه وفى النهاية عاد لبلاده بالفلول التى تبقت من جيشه يجر أذيال الخيبة .
بعد إنتهاء حرب الملك النصرانى حدث مثلما يحدث فى كل أو غالب الأحوال سرق النصر من أهله فبدلا من أن يحكم الناس بلادهم بالعدل عاد الأمراء لظلمهم وفسادهم ونسبوا النصر لأنفسهم وذهب الشهداء للجنة وهم من البسطاء الغلابة كما يقال للجنة ذهب دمهم هباء فى الدنيا لأنه لم يوجد من يحافظ على إنجازهم ويحوله لصالح الكل وليس لصالح البعض ممن يجيدون اللعب بمقادير الناس وكانت أبواق الأمراء باعة الأخرة محبى الدنيا تجارا وصوفية وخطباء وشيوخ حتى أن واحد منهم خطبنا يوما فى المسجد فقال :
ظلم الحكام باب من أبواب الرحمة الإلهية ولو أن أحدكم ممن ينتقد الحكام صار حاكما لبقيت له الرحمة الإلهية وإن ظلم يا قوم إن أولى الأمر منا لابد أن يظهروا فى كل الصور التى تحتاج إليها الرعايا فمن بايع الإمام فإنما يبايع الله ومن ثم فالإمام لا يظلم-وإن كان ظالما فى رأى الناس- لأن الله لا يظلم أحدا .
جنون فى جنون وكما قال شيخهم حارت الحيرة فى الحيرة
إذا ما دمنا لسنا مظلومين وهم ليسوا ظلمة فليس هناك شىء اسمه أساسا الظلم وما دام ليس هناك ظلم فليس هناك عدل
أردت قتل الرجل ولكنى لم أستطع فنحن فى المسجد وللمسجد حرمة لا تنتهك ومع هذا كظمت غيظى واستمررت أسمع خبلا منه حيث قال :
إن الله الحق كان كنزا مخبوءا وأراد أن يعرف فخلق الخلق ليعرفوه أى ليرى نفسه فيهم فصاروا مرآة له بحجم صورته الظاهرة فهم باطل أظهر حقا أو فهم حق أخفى باطلا والباطل عدم لا وجود له إلا بالصورة الإلهية التى يعكسها .
الله باطل كلام جميل والناس حق كلام أجمل الله له صورة ظاهرة كلام جميل ونحن صورة الله المعكوسة كلام أجمل ماذا بقى من الجنون أقصد الجمال لم يقولوه ؟إذا الله كاذب فى قوله "ذلك بأن الله هو الحق"وقوله "ليس كمثله شىء"وقوله "لن ترانى "وقوله "وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون "وقوله "الذين إذا ظلموا أنفسهم "وقوله "الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا "وما كذب الله قط بل القوم هم الكاذبون فهناك ظلم وظلمة والله ليس كخلقه وهو الذى خلق الخلق للإبتلاء حتى يميز الأحسن عملا وهو الحق أى الإله وحده وغيره مخلوقات والكل حق أى موجود وليس أيا منهما باطلا أى عدما وكان لابد من مقاومة هذا الجنون وإلا أصبحنا كلنا مجانين أى كفارا نستحق دخول النار