الصوفى
تعودت منذ سن العاشرة على مصاحبة أبى فى رواحه ومجيئه فى البلدة والبلدات المجاورة كان يصحبنى للمساجد للصلاة وسماع الدروس بعد العصر بشكل شبه يومى وكنت أصاحبه لما يسمونه مجالس الذكر وللمجالس فى قصور الأمراء لسماع الشعر وغيره وفى يوم جاء العم إسماعيل العدنى للبيت وجالس أبى طويلا ولما دخلت عليهم ملقيا السلام فردوا بأحسن منه ثم قال العم لأبى هل تذهب مع للصوفى الذى حدثتك عنه فرد إن شاء الله بعد العشاء الليلة وفى المساء خرجت مع أبى للصلاة وبعد الصلاة اصطحبونى معهم وسرنا كثيرا حتى خرجنا للمزارع وفيها وجدنا عشة وجدنا فيها رجلا عليه مرقعة من الصوف فقال له العم السلام على مولانا سهل فسكت الرجل قليلا وقال السلام والرحمة لك ولمن معك تفضلوا بالجلوس فجلسنا على قش يغطى الأرض حول العشة فقال العم صديقى محمد جاء ليسمع كلامك فى التصوف فقال الرجل إنه كلام الحق وليس كلامى فسأله أبى ما التصوف يا مولانا ؟فقال قال مولانا الجريرى الدخول فى كل خلق سنى والخروج من كل خلق دنى وقال سيدنا الجنيد أن تكون مع الله بلا علاقة وقال شيخنا رويم استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريد وقال سادتنا تصفية القلب عن موافقة البرية ومفارقة الأخلاق الطبيعية وإخماد الصفات البشرية ومجانبة الدواعى النفسانية ومنازلة الصفات الروحانية والتعلق بعلوم الحقيقة واتباع الرسول (ص)فى الشريعة وقال شيخنا عمرو بن عثمان المكى أن يكون العبد فى كل وقت مشغولا بما هو أولى فى الوقت وقال أحد أبدالنا أوله علم ووسطه عمل وأخره موهبة من الله تعالى وقال أحد سادتنا ذكر مع إجتماع ووجد مع إستماع وعمل مع إتباع فقال أبى معظم هذا يا مولانا يعنى الإسلام ومن ثم فالتصوف هو الإسلام فامتعض الرجل وقال التصوف مبنى على الإسلام ولكنه ليس الإسلام فقلت أنا للرجل إذا لم يكن كله الإسلام فهو جزء من الإسلام فقال أبى سائلا وما صفات الصوفية ؟فرد قائلا :
قوم هموهم باللــه قد علقت فما لهم همم تسمو إلى أحــد
فمطلب القوم مولاهم وسيدهم يا حسن مطلبهم للواحد الصمد
ما إن تنازعهم دنيـا ولا شرف من المطاعم واللذات والولــد
ولا للبس ثياب فائـــق أنق ولا لروح سرور حل فى بلــد
إلا مسارعة فى إثر منزلـــة قد قارب الخطو فيها باعد الأبد
فهم رهائن غــدران وأودية وفى الشوامخ تلقاهم مع العـد
فقلت ولكن سيدك الجنيد قال فى تعريفه أن تكون مع الله بلا علاقة وأنت هنا قلت قوم هموهم بالله قد علقت فهنا علاقة فقل لى هل لهم علاقة أم لا ؟فقال أبى اصمت يا محمد واترك مولانا يحدثنا فتناسى الرجل كلامى وقال الصوفى يا أحباب هو القائم فى الأشياء بإرادة الله تعالى لا بإرادة نفسه فلا يرى فضيلة فى صورة فقر ولا فى صورة غنى وإنما يرى الفضيلة فيما يوفقه الحق فيه ويدخله عليه ويعلم الإذن من الله تعالى فى الدخول فى الشىء فقاطعته قائلا إذا فهو نبى يوحى الله له فالعلم بالإذن من الله لا يكون إلا وحيا فنهرنى أبى فقال لقد علمك ابن عبد العليم الجدال فاسكت فقال الصوفى وقد يدخل فى صورة سعة مباينة للفقر بإذن من الله تعالى ويرى الفضيلة حينئذ فى السعة لمكان الإذن من الله فيه فلم أستطع صبرا على كلام الرجل فقلت قلت إن الفضيلة لا يراها الصوفى فى كل من الفقر والغنى ثم قلت ويرى الفضيلة حينئذ فى السعة فهنا الفضيلة فى الغنى وكل هذا متناقض فنظر لى أبى نظرة غضب وقال قم وانصرف بعيدا عن هنا فأطعت وسرت مسافة ثم استندت لشجرة بظهرى لا تبعد أكثر من ثلاثين ذراعا من مكانهم ووقفت أسمع الكلام الذى كان يأتى لمسامعى دون إذن منى وإن كنت أرغب فى سماعه وكان قول الرجل لهم بعد انصرافى من مجلسهم :الصوفى يا أحباب من صفا من الكدر وامتلأ من الفكر وانقطع إلى الله من البشر واستوى عنده الذهب والمدر فقلت فى نفسى وكيف ينقطع الإنسان عن البشر؟لو فعل لعصى الله فى قوله "وتعاونوا على البر والتقوى "فالتعاون لا يحدث إلا بإشتراك المسلمين معا ولو انقطع لعصى قوله "واسعوا إلى ذكر الله"فهنا صلاة الجمعة واجبة ولو انقطع لعصى قوله "فانتشروا فى الأرض وابتغوا من فضل الله"فالإنقطاع يعنى عدم الإنتشار وعدم إبتغاء فضل الله بالسعى وراء الرزق وعندما انتهى أبى والعم من مجالسة الصوفى عوجا على وقال لى أبى ما فعلته ليس من الأدب فى شىء فقلت له يا أبى إنكار المنكر من الأدب ولو سكت عن قول الحق فأنا كما قيل شيطان أخرس والله يقول "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر "
فى الصباح وفى الساعة الثانية من شروق الشمس ذهبت للمدرسة حيث الفقيه عبد الحق بن عبد العليم وبعد أن ألقى علينا بعض الدروس بدأت فترة النقاش الحر فسألته ما حكم الإسلام فى التصوف فقال يا بنى لا يوجد فى الإسلام شىء اسمه صوفية أو سلفية أو زهاد أو فقراء أو سنية أو شيعية فكل هذه الألفاظ إذا كانت تعنى المسلمين فأهلا وسهلا بها وإن كانت لا تعنيهم فهى ليست من الإسلام فى شىء فقلت يعنى إن الإسلام هو الصوفية هو السلفية هو الزهد هو السنة هو دين الشيعة هو دين الفقراء إلى الله فسألته فما رأيك فى التسميات ؟فأجاب إذا كان الإسم الصوفية نسبة للبس الصوف فليس لبس الصوف واجبا على المسلمين ومن ثم فإطلاق الكلمة على المسلمين ليس فى محلها لأنهم يلبسون قطنا وكتانا وغيرهم وإذا كان الإسم السلفية نسبة للسلف دون تحديد فإطلاقها خطأ فلابد أن يكون السلف محددا وهو الرسل وأتباعهم فقلت وما مرد كلمة الصوفية أيضا ؟فقال الفقيه قالوا إنها نسبة للصف الأول أمام الله وكذب من قال هذا فالصف الأول هم المقربون السابقون وهم المجاهدون لقوله بسورة النساء "فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة "ومعظم المتصوفة قعدة عن الجهاد الحربى فضلا عن قعود كثير منهم عن السعى وراء الرزق فكيف يكونون فى الصف الأول ؟ثم تابع كلامه وقالوا نسبة لأصحاب الصفة فى عهد النبى (ص)وقد ذكروا أن هذا لا يستقيم من حيث الإشتقاق اللغوى زد أنهم كانوا يعملون متى سنحت لهم فرصة السعى وراء الرزق وكان كثير منهم يجاهدون فى سبيل الله وقالوا أنه نسبة لصفاء النفس من الذنوب والآثام بطاعة حكم الله فى الليل والنهار وإن كان الإشتقاق اللغوى لا يسمح بهذا أيضا فقلت يا معلم وهل يكون المسلم فقيرا ؟فضحك وقال لكلمة الفقراء فى القرآن معنيين الأول الخلق كلهم مصداق لقوله بسورة فاطر "يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله "ومعناها المحتاجون لما عند الله من أنواع الرزق المختلفة والثانى العجزة وهم أولى الضرر الذين لا يستطيعون ضربا فى الأرض وهم الذين يعجزن عن الحركة بسبب ما أصيبوا به فى سبيل الله من عاهات وجراحات وفيهم قال تعالى بسورة البقرة "للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله لا يستطيعون ضربا فى الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا "وهم المستحقون للزكاة وهى الصدقات وفيهم قال بسورة التوبة "إنما الصدقات للفقراء"فقلت له إذا المسلم لا يكون فقيرا إلا إذا كان عاجزا فهز رأسه وقال نعم فسألته وهل يكون المسلم زاهدا فضحك وقال جاءت كلمة الزاهدين بقوله بسورة يوسف "وكانوا فيه من الزاهدين "ومعناها القانعين الراضين فالسيارة الذين باعوا يوسف(ص)كانوا راضين بالسعر الذى باعوه به ومن ثم فالزاهد هو الراضى بقضاء الله وليس الحارم نفسه من متاع الدنيا الحلال وزينتها لأن من حرم زينة وهى متاع الله الحلال فقد كفر وفى هذا قال تعالى بسورة الأعراف "قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق"وقد عاتب الله نبيه (ص)لأنه حرم على نفسه شيئا طيبا حلالا فقال بسورة التحريم "يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك "ومن ثم من قال أن الأكل والشرب واللبس الحلال والجماع الحلال من غير سرف حرام كافر لأنه حرم ما أحل الله فقلت وقد قال عقلاء بنى إسرائيل لقارون "ولا تنس نصيبك من الدنيا "فالمسلم لابد له من أن يتمتع بما أحل الله إن وجده فى غير سرف ولا كبر ثم سكت فترة وقلت وهل يكون المسلم جوعيا ؟فأغمض عينيه وقال يا بنى من المضحكات أن يجيع الإنسان نفسه والطعام موجود لو أراد الله أن يجيع المسلمين لفرض الصوم عليهم طول السنة ولكنه فرضه شهرا واحدا ليس بقصد التجويع وإنما بقصد تدريب الكل على جو الجهاد حيث الجوع والظمأ وعدم الجماع ولذا فكل من يمنع نفسه من الحلال هو محرم لما أحل الله ولو عقل الجوعى لعرفوا أن الأكل أكثر ثوابا فكل أكلة بعشر حسنات فلو أكل ثلاث مرات لأخذ 30 حسنة بينما لو صام سيأخذ عشرة فقط مصداق لقوله بسورة الأنعام "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" فحتى قولهم "وأجزى به "يعنى أثيب عليه ولا يوجد فى القول ما يدل على الثواب المحدد وفى قولهم عند أبى داود أن الصوم بعشر حسنات فسألته وهل يكون المسلم شكفتيا ؟فقال لا فالسكن فى الشكفت وهو الغار وحتى الصوامع والبرية محرم لأن الله جعل للمسلمين بيوتا فقال بسورة النور "لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم "وقال "ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت أبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم "ومن ثم فالمسلم لابد أن يعيش فى مسكن وسط ناسه وأما الخلوة والإعتزال فلا يحققان قوله تعالى بسورة المائدة "وتعاونوا على البر والتقوى "فالمع تزل لا يتعاون مع إخوانه ومن ثم فهو عاصى لأمر الله ولا يحقق قوله تعالى بسورة الجمعة "يا أيها الذين أمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فذروا البيع واسعوا إلى ذكر الله "فالمعتزل لا يطيع أمر الله هنا لصلاة الجمعة كما أنه قد عصى الله بالزواج وتربية الأولاد حتى يدعوا الله "وقل رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا "فقلت إذا فكل من يعتزل كافر فقال لى ليس كل معتزل الناس كافر فمن اعتزل دين القوم الخاطىء ليس كافرا كما فعل إبراهيم (ص)عندما قال لقومه "وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعوا ربى عسى ألا أكون بدعاء ربى شقيا "ومن ثم فالمسلم الذى يعتزل الناس للقيام بمهمة نافعة لهم مثل التفكير فى اختراع يرد كيد الأعداء أو ينفعهم لا يكون كافرا واعتزاله الناس يكون مؤقتا بمعنى أنه لبعض الوقت ولا يمنعه هذا الإعتزال من شهود صلاة الجمعة وغيرها من فروض التجمع فقلت يا مولانا وهل الخلوة مثل الإعتزال فرد الخلوة غير الإعتزال وهى فى القرآن على نوعين الأول الإعتكاف فى المساجد فى رمضان لمن أراد وفيها قال تعالى بسورة البقرة "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون فى المساجد"والثانى القيام الفردى وهو الإختلاء بالنفس فى مكان ما قد يكون البيت أو خارجه للتفكير فى الحق أو الباطل للوصول للحق وفى هذا قال تعالى بسورة سبأ "قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفراداى ثم تتفكروا "ولقراءة القرآن كما يقول بسورة المزمل "إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثى الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن "وهو لمن أراد من المسلمين فضحكت فى نفسى وقلت إذا يا مولانا حتى الخلوة تكون داخل أماكن تواجد الناس وليس فى الفضاء والخلاء فابتسم وقال من عرف أنه لا يخاف إذا خرج بمفرده للفضاء والخلاء للتفكير أو قراءة القرآن يباح له الخلوة خارج المساكن وأما من يعرف أنه قد يدخل فى قلبه الخوف مما تصوره له نفسه من أشباح الظلام أو مما يتواجد فى تلك الأماكن من هوام وبوم وخفافيش وغيرها فمحرم عليه الخلوة خارج المسكن فصمت الفقيه برهة وسألنى ولكن لماذا كل هذه الأسئلة يا عبد الله بن محمد؟فابتسمت وقلت له البارحة ذهبنا أنا وأبى بصحبة صديق لأبى لرجل صوفى وكدت أشتبك معه واختلفت مع أبى بسبب ما كان هذا الرجل يقوله فى تعريف التصوف فقال الفقيه إذا قم إلى أبيك الآن واعتذر له عن خلافك معه فامتعضت وقلت للرجل ولكنى أكنت أنكر منكرا فكيف أعتذر عن عمل صالح ؟مد الفقيه يده وربت على ظهرى وقال الإعتذار عن خلافك لأبيك ليس عن إنكار المنكر وإنما على مخالفة أمره بالسكوت حتى ينهى الرجل حديثه وبعد هذا لا تتكلم الآن قم وانصرف فقمت من مجلسى وقلت السلام عليكم .