أسباب ظاهرة الإلحاد وطرق علاجها
أولاً: مدخل وتعريف
مدخل:
يعاني العالم المعاصر من مشكلات كثيرة فبالرغم من التقدم المادي الهائل الذي
نعيش فيه والخيرات العظيمة التي وفرها العلم لحياة الإنسان ورفاهيته، إلا
أننا نعيش في ظل مشكلات رهيبة يتولد بعضها عن بعض، ويؤثر بعضها في وجود بعض،
ومن هذه المشكلات القلق النفسي والاضطراب، وانتشار الجريمة، وانعدام الأخلاق
والفردية والأنانية، والظلم بكل معانيه وصوره، والانحلال والفساد، فالفضائح
السياسية والمالية نسمع عنها كل يوم تقريباً، ولا يكاد يخلو بلد من بلدان
العالم من هذه المشكلات، ولم يستطع تقدم الإنسان المادي أن يقضي أن يخفف من
هذه المشكلات بل على العكس من ذلك كلما ارتقت حياة الإنسان المادية كلما ظهرت
وانتشرت هذه المشكلات.
وبالرغم من كثرة هذه المشكلات وتعددها فإن أعظم هذه المشكلات وأكبرها أثراً
في ظهور الفساد والاضطراب والقلق هي مشكلة الإلحاد. فهذه المشكلة في الحقيقة
هي أم المشكلات وسببها جميعاً. فماذا نعني بمشكلة الإلحاد؟ وما سبب هذه
المشكلة التي أصبحت إحدى مظاهر العصر؟ وكيف يعالج الإسلام هذه المشكلة؟ هذا
ما سنناقشه في الصفحات التالية بحول الله.
ماذا نعني بكلمة الإلحاد:
نعني بالإلحاد الكفر بالله والميل عن طريق أهل الإيمان والرشد. وظهور التكذيب
بالبعث والجنة والنار وتكريس الحياة كلها للدنيا فقط والإلحاد اليوم ظاهرة
عالمية فالعالم الغربي في أوربا وأمريكا وإن كان وارثاً في الظاهر للعقيدة
النصرانية التي تؤمن بالبعث والجنة والنار إلا أنه ترك هذه العقيدة الآن
وأصبح إيمان الناس هناك بالحياة الدنيا فقط وأصبحت الكنيسة مجرد تراث وأثر من
آثار الماضي، ولا تشكل في حياة الناس وعقولهم إلا شيئاً تافهاً جداً وقد أصبح
(الإلحاد) هو الدين الرسمي المنصوص عليه في كل دساتير البلدان الأوربية
والأمريكية ويعبر عن ذلك (بالعلمانية) تارة، و (اللادينية) تارة أخرى وكل ذلك
يعني الإلحاد والكفر بالله.
وفي الشرق تقوم أكبر دولة على الإلحاد وهي الدولة الروسية التي تحمل العقيدة
الشيوعية التي من بنودها رفض الغيب كله والقول بأن الحياة مادة فقط وأن صراع
الإنسان في هذه الحياة إنما هو من أجل العيش والبقاء فقط، وأما الدول الأخرى
فبالرغم من أنه كان ينتشر فيها أديان تقوم على بعض العقائد الغيبية
كالهندوكية والبوذية والكونفشيوسية إلا أن هذه الأديان اختفت الآن تقريباً
أمام مد الإلحاد الغربي والحياة العصرية.
وبالرغم من أن العالم الإسلامي ما زال يتمسك نوعاً ما بالإسلام ويقر بالتوحيد
ويؤمن بالبعث والجنة والنار إلا أن موجة الإلحاد العارمة تطغى عليه من كل
جانب، وتشكك أبناءه في دينهم وعقيدتهم ويحسن بنا ونحن نجابه هذه المشكلة أن
نبحث بحثاً موضوعياً علمياً في أسباب هذه المشكلة وكيفية علاجها.
ثانياً: أسباب مشكلة الإلحاد
منذ مائتي عام فقط لم تكن مشكلة الإلحاد بهذه الحدة والانتشار ولكن في
القرنين الأخيرين ظهرت عوامل كثيرة جعلت من الإلحاد والكفر بالله ديناً عاماً
منتشراً، ونستطيع أن نجمل أهم الأسباب في انتشار الإلحاد فيما يلي:
1- الكنيسة الأوروبية:
لقد كانت الكنيسة الأوروبية سبباً غير مباشر أحياناً وسبباً مباشراً أحياناً
أخرى في نشر الإلحاد والزندقة والكفر الكامل بوجود الله وذلك لأن القائمين
على هذه الكنيسة من الرهبان والقساوسة أدخلوا في دينهم كثيراً من الخرافات
والخزعبلات، وجعلوها عقائد دينية، كرفعهم عيسى عليه السلام من مرتبة البشرية
إلى الألوهية وظهور فكرة الخطيئة والصلب والخلاص وأضافوا إلى ذلك كثيراً من
الخرافات الدارجة عن الأرض والكون والحياة، وعندما بدأ عصر النهضة الأوربية
واكتشف بعض العلماء حقائق جديدة عن الأرض والكون والحياة هب الرهبان
والقساوسة ينكرون ذلك، ويتهمون من يعتقد بالحقائق الجديدة ويصدق بها بالكفر
والزندقة ويوعزون إلى السلطات الحاكمة بقتلهم وحرقهم بالنار، ولقد لقي كثير
من العلماء هذا المصير المؤلم جزاء مخالفتهم لآراء الكنيسة.. ولكن حركة العلم
لم تتوقف واستطاع العلماء أن يقدموا كل يوم براهين جديدة على نظرياتهم
العلمية وابتدأت آراء الكنيسة ومعتقداتها تهزم كل يوم هزيمة جديدة وكانت
الجولة في النهاية لعلماء المادة على رجال الكهنوت فاندفع الناس نحو الإيمان
بالعلم المادي كإله جديد سيحمل الرخاء والقوة والرفاهية للناس، وفتش الناس
أسرار الكنيسة فهالهم ما رأوه من فساد أخلاقي بين الرهبان والراهبات وأرادوا
التخلص إلى غير رجعة من السلطان الكهنوتي والقهر الزمني الذي مارسته الكنيسة
ضدهم ومن الإتاوات والضرائب التي فرضتها الكنيسة على رقابهم فكان الرفض
الكامل لكل المعتقدات الدينية والكراهية العامة لكل عقيدة تنادي بالإيمان
بالغيب واتهام الرسل جميعاً بالكذب والتدليس وهكذا برزت الموجة الأولى من
موجات الإلحاد العالمي.
2- مظالم العالم الرأسمالي:
ما كادت أوربا تتخلص جزئياً من سلطان الكنيسة ويكتشف الناس قوة البخار والآلة
حتى تحول الناس من الزراعة إلى الصناعة، وهرع أهل الإقطاع إلى التصنيع
فامتلكوا المصانع الكبيرة وحازوا الثروات الضخمة واستغلوا العمال استغلالاً
فاحشاً وانتشرت المظالم الهائلة وظهرت الطبقات المتفاوتة من رأسماليين جشعين
إلى عمال فقراء مظلومين، وكان رؤية هذا الظلم الجديد، ومساندة رجال الدين أو
سكوتهم عنه سبباً جديداً في انتشار الإلحاد والشك في وجود الله، واتهام الدين
بمساندة الظلم أو عجزة عن تقديم حل ناجح لمشكلات الإنسان على الأرض وابتدأت
العقائد الدينية تنحسر انحساراً جديداً عن حياة الناس وابتدأ الناس يعملون
أفكارهم في خلق عقائد تستطيع أن تحل مشكلاتهم على الأرض، وتقنع عقولهم وعجزت
الكنيسة الأوروبية أيضاً عن تقديم هذا العلاج للناس.
3- ظهور المذاهب الاقتصادية الالحادية:
كان العامل الثالث الذي ساعد على انتشار موجة الإلحاد هو ظهور المذاهب
الاقتصادية الإلحادية وخاصة الشيوعية التي بشر بها كارل ماركس (اليهودي
الألماني الذي تنصر والده) فبالرغم من أن هذا المذهب ينطلق من منطلق اقتصادي
ويستهدف حسب إعلان المبشرين به معالجة المظالم الرأسمالية الفردية والسيطرة
على مجتمع اشتراكي يعمل فيه كل إنسان حسب طاقته ويأخذ حسب حاجته فقط، إلا أن
القائمين على هذا المذهب الاقتصادي صبغوه بالصبغة العقائدية وأعطوه أبعاداً
أخرى غير اقتصادية فزعموا أن الحياة التي يعيشها الناس حياة مادية فقط وأنه
لا يوجد روح ولا بعث ولا إله، ولا حياة أخرى وأن الناس منذ وجدوا لا هم لهم
إلا المصالح المادية وزعموا أن ظهور الأديان إنما كان من فعل الأغنياء
ليلبسوا على الفقراء ويستغلوهم وأن الأخلاق كالأمانة والعفة والصدق ما هي إلا
نتاج خبيث للفكر الديني الذي يريد أن يخدم المصالح الرأسمالية، واعتقد
الشيوعيون لذلك أن الأنبياء ما كانوا إلا دجالين أرادوا بنشر أديانهم تخدير
الشعوب لتستنيم للظلم والقهر وبهذا أصبح هذا المذهب الاقتصادي بفلسفته التي
أطلقها على الأديان موجة جديدة من موجات الإلحاد والزندقة. ولعل هذه الموجة
الجديدة التي جاءت بها الشيوعية كانت أعتى موجات الإلحاد جميعاً وذلك أن
الشيوعية تبنت الدفاع عن المظلومين والفقراء وهذه قضية عادلة وإنسانية في
ذاتها ولذلك تبنى هؤلاء الفقراء والمظلومون وهم أغلبية الناس دائماً هذه
العقيدة الجديدة والدين الجديد لأنه يدافع عن مصالحهم ويتبنى قضاياهم وبالطبع
أخذوا هذا الدين بفلسفته العقائدية وليس بفكره الاقتصادي فقط.
وهكذا انتشر الإلحاد سريعاً مع هذا المذهب الاقتصادي الجديد وكان النجاح
الهائل الذي لاقته الدعوة الشيوعية بتفجير الثورة البلشفية في روسيا
والاستيلاء على الحكم عاملاً كاسحاً في هدم الأديان ونشر الإلحاد وانتقاله
ليصبح عقيدة عالمية.
ولما كانت الدعوة الشيوعية ترى أن نهاية العالم الحتمية إلى الشيوعية وتدعو
لذلك بل تنتهج الثورة والعنف الدموي سبيلاً إلى نشر الشيوعية فإنه سرعان ما
تأجج العالم من أقصاه إلى أقصاه بالثورات التي أججتها هذه العقيدة وابتدأت
التحولات القسرية لشعوب بأجمعها نحو الإلحاد كما حدث في الجمهوريات الإسلامية
في روسيا وكذلك في الصين وغيرها وما زال المد الإلحادي الذي تؤججه العقيدة
الماركسية يمتد عبر بلدان العالم جميعها. وها هي البلدان العربية التي كانت
معقلاً للإسلام تغزوها العقيدة الماركسية الإلحادية في عقر دارها.
4- اقتران الإلحادية بالقوة المادية:
السبب الرابع الذي شجع الناس على الكفر بالله والانطلاق نحو الإلحاد الكامل
هو اقتران القوة المادية بالإلحاد، وذلك أن الناس رأوا أن أوربا لم تتقدم
وتمتك القوى المادية وتكتشف أسرار الحياة إلا بعد أن تركت أفكار الكنيسة
وعقائدها. وأن دولة كروسيا لم تصبح دولة عظمى إلا بعد أن أعلنت أنها دولة
إلحادية، ورأوا مع ذلك أن الدول التي ما زالت تتمسك بالدين دولاً متخلفة في
القوة والصناعات فظن الناس لذلك أن الإلحاد سبب للقوة والعلم، وأن الدين يعني
التخلف والجهل، ولما كان للعلم المادي آثاره الظاهرة والباهرة من تيسير حياة
الإنسان على ظهر الأرض ونشر الرفاهية والرخاء فإن الناس انصرفوا عن العقائد
الدينية وآمنوا بالعلم المادي كإله جديد قادر على أن يذلل لهم كل الصعاب على
هذه الأرض، بل أطمعهم هذا الإله المادي أيضاً في الوصول إلى الكواكب الأخرى
وتسخيرها في خدمة الإنسان وهكذا ساعد اقتران العلم المادي والكشوف الجديدة
بالإلحاد على ظن الناس أن العلم ثمرة ونتيجة للإلحاد، وكان هذا خطأ عظيماً
عمت بسببه موجة الإلحاد.
5- هزيمة العالم الإسلامي أمام الهجمة الأوربية:
ما كاد الأوربيون يمتلكون القوة المادية، ويستخدمون الآلة، ويبنون المصانع
حتى اتجهوا إلى دول العالم بحثاً وراء الأسواق لمنتجاتهم الصناعية، وجلباً
للمواد الخام اللازمة للصناعة. ولما كانت هذه الدول تطمع في الحصول على ما
تريد بأبخس الأثمان أو بلا ثمن أصلاً فإنها استخدمت قوتها العسكرية النامية
للحصول على ما تريد. ولما كان العالم الإسلامي في غاية الضعف العسكري والسياسي،
فإنه لم يصمد طويلاً أمام الهجمة الأوربية الاستعمارية،
وكان للهزيمة العسكرية التي مني بها المسلمون أمام الغزو الأوربي أثرها
البعيد في زلزلة العقائد الإسلامية، وانحسارها أمام المد الإلحادي الذي حمله
المستعمرون الأوربيون، وطفقت الشعوب الإسلامية، تقلد المستعمر الأوربي وتتشبه
بأخلاقه وعاداته، وتدخل في عقيدته الإلحادية ظناً منها أن الأوربيين لم يصلوا
إلى القوة إلا برفضهم للدين، وكانت هذه خطيئة جديدة وسبباً آخر أسهم في
الظاهرة الإلحادية العالمية.
6- الحياة الجديدة ومباهج الحضارة:
فتح العلم المادي للناس أبواباً عظيمة من أبواب الرفاهية والترف ومغريات
الحياة، فالمراكب الفخمة من سيارات وطائرات، وقطارات، ووسائل الاتصال ووسائل
الراحة والتسلية، والمطاعم والمشارب الفاخرة، والألبسة الأنيقة، والتفنن
العجيب في التلذذ بالحياة، والجري وراء الشهوات والمغريات كل هذا فتح على
الناس ألواناً لم يعهدوها من الاستمتاع بالحياة، والانغماس في الشهوات
والملذات.
ولما كان الدين بوجه عام ينهى عن الإسراف ويأمر بالقصد والاعتدال، ويحرم
الاستمتاع بالحرام كالخمر والزنا والتعري فإن الناس الذين يجهلون سر أمر
الدين بذلك ظنوا أن هذه قيوداً على حريتهم، وحجراً لملذاتهم وشهواتهم
فازدادوا لذلك بعداً عن الدين، وكراهية لمن يذكرهم بالآخرة ومن يحذرهم من نار
أو يطمعهم في جنة. وبذلك أيضاً ازدادت غربة العقائد الدينية وانتشرت عقائد
الإلحاد والزندقة.
7- دوامة الحياة:
كان لانطلاق الناس الصارخ نحو العب من الحياة والاستمتاع بكل ما أفرزته
الحضارة الغربية من ملهيات ومغريات، واقتناء كل مستطاع من وسائلها الحديثة
أثره البالغ في انشغال الناس عن كل شيء حتى عن أنفسهم، فضاعف الناس ساعات
عملهم طمعاً في المزيد من الأجور ولتحصيل المزيد من وسائل الراحة كالغسالات
والثلاجات والسيارات، ونحوها، وفي سبيل ذلك أيضاً انطلقت المرأة من المنزل
لتشارك الرجل أعباء الحياة وتكاليفها الجديدة، وللحصول على مزيد من الرفاهية
والراحة، وابتدأ السعار المجنون والرغبة الجامحة نحو اقتناء مغريات الحياة
فتطلب ذلك زيادة في الجد والنشاط وانشغالاً بالليل والنهار، وهكذا بدأت دوامة
الحياة تطحن الإنسان المعاصر وتشغله في ليله ونهاره ولا تترك له فرصة للتفكير
في نفسه أو في مصيره فهو يعمل في متجره أو مصنعه ويعود لملهياته وشهواته ثم
يعود إلى عمله وهكذا دون أن تترك له الحياة المعاصرة وقتاً للفراغ يستطيع فيه
أن يفكر في حقائق الدين، وأن يجيب عن الأسئلة الخالدة التي تتردد داخل كل
نفس: من خلق هذا الكون؟ ومن خلقنا؟ ولماذا خلقنا؟ وإلى أين نسير؟ وهل لهذا
العالم نهاية؟ وهل له من بداية؟ ولماذا يعيش الناس متفاوتين فهذا غني وهذا
فقير، وهذا ظالم، وذاك مظلوم، وهذا قاتل، وذاك مقتول؟ وفيم كل هذا؟ بل بقيت
هذه الأسئلة حائرة في أكثر النفوس وبلا جواب وذلك أن الإنسان المعاصر
المستهلك الذي تطحنه دوامة الحياة لا يجد وقتاً للتفكير في كل هذه الأسئلة.
هذه هي الأسباب البارزة لوجود ظاهرة الإلحاد وانتشارها على هذا النحو الذريع
والآن كيف أثرت هذه الظاهرة في حياتنا المعاصرة وما آثارها على التحديد؟
ثالثاً: آثار الإلحاد في حياة الإنسان
ترك الإلحاد المعاصر آثاره الواضحة في سلوك الإنسان وفي أخلاق الأمم ونظام
الاجتماع، ونستطيع أن نجمل هذه الآثار فيما يلي:
1- القلق والصراع النفسي:
إن أول الآثار التي يخلفها الإلحاد في نفوس الأفراد هو القلق والحيرة
والاضطراب والصراع النفسي. وذلك أن داخل كل إنسان منا فطرة تلح عليه، وأسئلة
تتلجلج في صدره: لماذا خلقنا؟ ومن خلقنا؟ وإلى أين نسير؟ وإذا كانت زحمة
الحياة، وشغلها الشاغل يصرف الإنسان أحياناً عن الإمعان في جواب هذه الأسئلة،
والبحث عن سر الحياة والكون فإن الإنسان يصطدم كثيراً بمواقف وهزات تحمله
حملاً على التفكير في هذا السؤال، فالأمراض والكوارث، وفقد بعض الأهل
والأحبة، والمصائب التي تصيب الإنسان ولا بد تفرض على الإنسان أن يفكر في
مصيره ومستقبله، ولما كان الإلحاد عقيدة جهلانية لأنه يقوم على افتراض عدم
وجود إله - فإنه لا يقدم شيئاً يخرج هذا الإنسان من الحيرة والقلق والالتباس
ويبقى لغز الحياة محيراً للإنسان ويبقى رؤية الظلم والمصاعب التي يلاقيها
البشر في حياتهم كابوساً يخيم على النفس ويظل الإلحاد عاجزاً عن فهم غاية
الحياة والكون، ولا يقدم للإنسان إلا مجموعة من الظنون والافتراضات لا تقنع
عقلاً ولا تشفي غليلاً. ومع إلحاح نداء الفطرة الداخلي وتردد تلك الأسئلة
الخالدة في النفس يظل الإنسان قلقاً معذباً.
وقد كان للإنسان قديماً فسحة من الوقت ليخلو بنفسه ويطالع السماء بنجومها،
والبحر بروعته وسحره، والجبال بشموخها والصحراء بسعتها وامتدادها وروعتها.
والزهر والنبات وبهجته، وكان ذلك يفيده كثيراً في الاستدلال على الرب
والاعتراف بالصانع العظيم والخالق الكريم. ولكن الإنسان المعاصر أصبحت تحاصره
المدينة بعمارتها الشامخة وطرقها الحديثة وأضوائها وضوضائها وملهيات الحياة
ومغرياتها فتشل فكره عن التفكير في الخالق والاستدلال على الله. فيزيد هذا في حيرته وارتباكه.
وقد كان المجتمع القديم أيضاً مجتمعاً ساذجاً فطرياً يعرف الناس فيه بعضهم
بعضاً ويتعاونون في الملمات ويفزع بعضهم البعض في المصائب. ولكن المجتمع
الحديث مجتمع المدينة الصاخب باعد الناس بعضهم عن بعض وأصبح لكل فرد منهم
همومه ومشكلاته، وأصبح الإنسان المعاصر لا يجد من يشكو إليه قلقه ومشكلاته
ولا يتصور أن يجد من يمد له يد العون لو زلت قدمه وأصابته مشكلة أو فاقة
وبذلك تعاظم الخوف من المستقبل والحذر من الأيام، واهتم الناس بأنفسهم
وأصبحوا حريصين ماديين يجمعون ويدخرون ولا ينفقون. ومع الخوف من المستقبل
والحذر من الأيام زاد القلق والاضطراب والتوجس والتوجع. ولو كان ثمة إيماناً
بالله وتصديقاً بالغيب ومعرفة بالقضاء والقدر لحلت هذه المعضلة ولكن الإلحاد
الذي يفترض ويزعم أن الإنسان يقوم وحده في هذا الكون وأنه لا يوجد إله يقيمه
ويرزقه كرس قلق الإنسان وخوفه من المستقبل واتجاهه للأنانية والفردية.
2- الأنانية والفردية:
كانت النتيجة الحتمية للقلق النفسي والخوف من الأيام هي اتجاه الإنسان نحو
الفردية والأنانية ونعني بالأنانية اتجاه الإنسان لخدمة مصالحه الخاصة وعدم
التفكير في الآخرين - فالدين الذي يحث الإنسان على بذل المعروف للغير
والإحسان للناس ابتغاء مرضاة الله بانحساره عن حياة الإنسان حل مكانه التفكير
في النفس فقط وبذلك بدأ الناس في عصور الإلحاد المظلمة هذه لا يأبهون بغيرهم
من بني البشر وشيئاً فشيئاً قلت العناية بالفقراء والمحتاجين ثم بالأهل
والأقربين ثم بالوالدين وأيضاً بالزوجة والأولاد والمطلع على أحوال المجتمع
الإلحادي في الغرب والشرق يرى إلى أي حد أصبح الناس ماديين أنانيين لا يهتم
الفرد إلا في نفسه، ولا يهتم بالآخرين إلا بقدر ما يعود هذا على نفسه من
منافع. وقد ضاعف هذه الأنانية والمادية اتجاه الناس نحو العب من الملذات
والشهوات التي يسرتها الحضارة الحديثة وأباحتها قوانين الإلحاد التي تكفر
بالآخرة وتجعل حياة الإنسان الخاصة ملكاً له. فانطلق الناس لذلك نحو شهوات
أنفسهم يستزيدون منها بقدر طاقتهم وجهودهم وأهملوا في سبيل ذلك العطف
والإحسان والعناية بالآخرين. وبذلك نشأن الإنسان المادي النفعي المعاصر الذي
أصبح علماً ورمزاً للحضارة الأوربية الإلحادية التي تغزو العالم الآن.
3- فقد الوازع والنزوع إلى الإجرام:
لأن الإلحاد لا يربي الضمير، ولا يخوف الإنسان من إله قوي قادر يراقب تصرفاته
وأعماله في هذه الأرض فإن الملحد ينشأ غليظ القلب عديم الإحساس قد فقد الوازع
الذي يردعه عن الظلم ويأمره بالإحسان والرحمة. بل على العكس من ذلك فإن
الإلحاد يعلم أتباعه أنهم وجدوا هكذا صدفة ولم يخلقهم خالق أو أنهم خلقوا
أنفسهم وأنهم حيوانات أرضية كسائر الحيوانات التي تدب على الأرض وبذلك يغلظ
إحساسهم ويتنامى شعورهم بالحيوانية والانحطاط ويتجهون إلى إثبات ذواتهم
بالإغراق في الشهوات والملذات، وإذا منعتهم ظروفهم المعاشية أو القوانين
الوضعية البشرية عن بلوغ غاياتهم وأهدافهم الحيوانية فإنهم يقومون بالتغلب
على تلك الظروف وذلك إما بالحيلة والمكر وإما بالقوة والغلبة وفي كلا الأمرين
لا يجد الإنسان الملحد رادعاً داخلياً يردعه لأنه لا يخاف رباً ولا يرجو
حساباً. ولا يبقى أمام الملحد من وازع إلا القانون البشري أو ظروفه الواقعية
وهذه أمور يمكن التغلب عليها بصور كثيرة وخاصة في المجتمع المعاصر الذي تفنن
الإنسان فيه في طرق الإجرام والتهرب من القوانين. وقد يبقى في بعض الأنفس
التي تدين بالإلحاد شيء من نداء الفطرة ومحاسبة الضمير ولكن هذا النداء
الداخلي المسمى بالضمير سرعان ما يزول ويتلاشى في زحمة الحياة الراكضة وأمام مغرياتها الكثيرة.
وهذا الأثر من أعظم آثار الإلحاد في حياة الإنسان فعالمنا المعاصر هو عالم
الجريمة والخوف. فكل يوم تطالعنا وسائل الاتصال من صحف وكتب وإذاعة وغيرها
بأخبار الجرائم البشعة التي بلغت من الحدة والعنف والشذوذ والتلذذ بتعذيب
الآخرين وشرب دمائهم. والتمتع برؤية صراخهم واستغاثاتهم -هذا إلى حوادث
السرقة والسطو والاغتصاب والقتل التي تتزايد يوماً بعد يوم- ولعل حادثة
انقطاع النور المشهورة عام 1977م عن مدينة نيويورك حيث اكتشف الناس في الصباح
أن آلاف المحلات التجارية والمخازن والبيوت قد نهبت عن آخرها وأنه اشترك في
هذه السرقة الجماعية معظم الناس على اختلاف درجاتهم وطبقاتهم وأعمارهم حتى
رجال الشرطة أنفسهم المكلفون بالحراسة شاركوا هذا المهرجان الشائن في السرقة والسطو.
ويقدر الخبراء أنه لو استمر انقطاع النور هكذا أسبوعاً واحداً ولم تتدخل فرق
من الجيش لخربت المدينة عن آخرها. فكيف إذا تراخى الأمن في ظل الأزمات أو
الحروب لا شك أن هذا المجتمع سيأكل بعضه بعضاً. ولا شك أيضاً أن هذه ثمرات
حتمية من ثمار الإلحاد.
4- هدم النظام الأسري:
كان للإلحاد آثار مدمرة في الحياة الاجتماعية للإنسان فالبعد عن الله سبحانه
وتعالى لم يكن من آثار تدميره النفسية البشرية فقط وإنما كان من لوازم ذلك
تدمير المجتمع الإنسان وتفكيكه وذلك أن نظام الاجتماع البشري لا يكون صالحاً
سليماً إلا إذا كانت اللبنات التي تشكل هذا النظام صالحة سليمة، وإذا فسدت
هذه اللبنات فسد تبعاً لذلك النظام الاجتماعي بأسره ولذلك كان من نتائج
الإلحاد أيضا هدم النظام الأسري.
ومعلوم أن الأسرة هي الخلية الأولى في النظام الاجتماعي. وعندما فسدت البشرية
فسدت الروابط الأسرية فالزوج الفاسد المنحل لا بد وأن يمتد فساده إلى زوجته
وأولاده، والزوجة الفاسدة التي لا تراقب الله سبحانه وتعالى ولا تخافه لا بد
وأن ينعكس هذه على أسرتها كلها: زوجها وأولادها، وكذلك الابن الفاسد الذي لا
يراعي حرمة لوالد أو والدة، ولا حقاً لله سبحانه وتعالى وكذلك البنت الفاسدة
وهكذا ابتدأنا نسمع في ظل الإلحاد المعاصر عن انهيار عقد الزواج الشرعي
الشريف الذي يقصر المرأة على رجل واحد وتقيم علاقات متوازنة بين الأزواج
ويوزع المسئولية في الأسرة توزيعاً عادلاً موافقاً للفطرة البشرية التي خلق
الله عليها كلاً من الذكر والأنثى، وبانهيار عقد الزواج الشرعي أصبحت علاقات
الأزواج علاقة متعة ومنفعة مجردة وبذلك قلت التضحيات التي لا بد منها فالزوج
المخلص الوفي لا بد وأن يضحي بشيء من شهواته في سبيل أسرته، والزوجة الوفية
كذلك التي قد تضطرها ظروفها أن تعيش مع زوج فقير أو مريض وأن تكافح لخدمة
غيرها وتربية أولادها. ولكن في ظل العقيدة الإلحادية التي لا تؤمن بالآخرة
ولا بالجزاء، فإنه لم يبق ما يحمل بالزوج أو الزوجة على التضحية والفداء.
وكذلك الحال بالنسبة للأبناء أيضاً الذين يتعلمون في ظل التوحيد أن يعبدوا
الله بالإحسان إلى آبائهم، وأن يجاهدوا في سبيل مرضاتهم وكفالتهم في أحوال
العجز والكبر ولكن العقيدة الإلحادية التي تقوم على النفعية المادية تنظر إلى
خدمة الآخرين على أنه سخافة وغباء ما دام أنه لا يحقق نفعاً قريباً. وبهذا
ماتت المشاعر الجميلة والروابط الطبيعية التي كانت تمسك بزمام الأسرة وتؤلف
بين قلوب أفرادها.
ولم تقتصر الآثار السيئة للإلحاد على هذا الفساد في الأسرة، بل تعدى ذلك إلى
أنواع عجيبة من الفساد ففي ظل الانهيار الخلفي والرغبة المجنونة في جني
الملذات والركض وراء الشهوات الجنسية أصبح التمسك بعقد الزواج الشرعي نوعاً
من الغباء وبذلك أيقن الرجال في كثير من الأحيان أن أبناءهم الذين ولدوا على
فراشهم ليسوا من ظهورهم بالضرورة وأيقن الأخوة كذلك أنهم لا ينتمون إلى أب
واحد وبذلك انهدمت مشاعر القربى والرحم التي لا يمكن أن تنشأ إلا في مجتمع
نظيف طاهر. وبانهيار مشاعر القربى والرحم كالأخوة والأبوة والعمومة ونحوها
انهدمت متعة عظيمة من المتع الروحية والنفسية التي لا غنى عنها للإنسان وحل
مكان ذلك المتع الجسدية المادية البليدة وبهذا تحول الإنسان شيئاً فشيئاً نحو
الحيوانية والمادية وتفككت بذلك أيضاً عروة الأرحام والقرابة بعد أن تفككت
الأسرة وقيمها الجميلة. وبهذا أضحى الطلاق وهجران البيوت وخيانة الزوجية
شيئاً عادياً يومياً، وأصبح الرجل يرى أصدقاء ابنته ولا يأبه لذلك بل يدفعها
لهذا، وكذلك يرى صديقات ابنه ولا يأبه لذلك لأن الناس آمنوا في ظل الإلحاد أن
على كل إنسان أن يسلك السبيل الذي يريد، وأن كل إنسان مسئول عن نفسه فقط.
وبهذا انهدمت الخلية الأولى من خلايا المجتمع الإنساني.
5- تخريب المجتمعات:
الأسرة هي الخلية الأولى من البناء الاجتماعي وبفسادها لا شك يفسد النظام
كله. لأن الأسرة هي المحضن الأول للإنسان وإذا فسد الإنسان فسدت اللبنات التي
تكون هذا البناء ولا بد. ولما كانت الأسرة تقذف إلى المجتمع كل يوم بلبنات
فاسدة وتأتي هذه اللبنات الفاسدة وتأخذ مكانها في الهرم الاجتماعي الكبير
فالفرد يكون مسئولاً في دائرة أو حاكماً أو طبيباً أو مهندساً أو مدرساً أو
عاملاً.. وكل فرد من أفراد المجتمع يتعامل مع المحيطين به بالأخلاق والسلوك
الذي كسبه في حياته وخاصة في مراحل نشأته الأولى في أسرته وهكذا تطفح
الأنانية والفردية وغياب مراقبة الله سبحانه وتعالى في جميع المعاملات وأنماط
السلوك التي يمارسها الفرد، وهكذا تصبح العلاقات التي تحكم تصرفات الفرد في
شكل هذا المجتمع علاقات المنافع المادية والمصالح الشخصية، وتختفي التضحية
والفدائية والصبر والرغبة في إسعاد الآخرين ونفع الناس وهكذا تتحول الدوائر
الحكومية والمؤسسات الخاصة وجميع أجهزة الدولة إلى أن تصبح مطايا للمآرب
الشخصية، وهكذا لا يزال الناس يكتشفون في كل يوم الفساد الإداري والوظيفي
واستغلال النفوذ، وأخذ الرشوة والتحايل على القوانين والتلاعب بأموال الدولة
وكذلك الظلم والقهر.
إن المجتمع الحديث في ظل الإلحاد أصبح شبيهاً بمجتمع الغابة الذي يحاول كل
حيوان فيه أن يفترس الآخر وبهذا يلجأ الضعيف إلى التخفي والخداع ويلجأ القوي
إلى البطش والقسوة والعنف.
والذين يطالعون أحوال المجتمع الغربي الآن يرون إلى أي حد أصبحت الجريمة
عملاً يومياً، وسلوكاً منظماً متطوراً فبالرغم من توفر الزنا والرذيلة ينتشر
الاغتصاب للنساء بصورة مذهلة، وبالرغم من توفر الفرص للعمل والإنتاج نجد
السطو والسرقات المسلحة التي يمارسها الناس على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم
وأسنانهم ولا يكاد يمر يوم واحد حتى تقع في كل مدينة عشرات بل مئات من حوادث
القتل والإجرام.
وهكذا في ظل الإلحاد وعدم مراقبة الله سبحانه وتعالى وتذكر الآخرة تتحول
المجتمعات إلى مستنقع آسن للرذيلة والفجور، وتصبح الجريمة عملاً يومياً ويصبح
التحايل على القانون واستغلال النفوذ وظلم القادر للضعيف ونفاق الضعيف أمام
القوي خلقاً وديناً ومنهجاً جديداً تسير عليه المجتمعات المنحلة البعيدة عن
الله سبحانه وتعالى.
6- الإجرام السياسي:
لعل أعظم آثار الإلحاد هو آثاره في السياسة العالمية، ونظام العلاقات بين
الدول. وذلك أن الأخلاق المادية الإلحادية التي جعلت قلب الإنسان يمتلئ
بالقسوة والأنانية دفعت الإنسان إلى تطبيق هذه القسوة والأنانية في مجال
العلاقات السياسية العالمية أيضاً. ولذلك رأينا الدول الاستعمارية الكبرى
تلجأ إلى وسائل خسيسة جداً في استعباد الشعوب الضعيفة والحصول على خيراتها
ونهب ثرواتها وبلادنا الإسلامية بوجه عام والعربية بوجه خاص هي أشقى البلاد
الضعيفة بهذه السياسات المادية الالحادية فهي تقع دائماً تحت التهديد بالقهر
والتدخل العسكري كلما حاولت دولنا الإسلامية أن تحصل على شيء من حقوقها
الضائعة أو أموالها المنهوبة. بل كلما فكرت دولنا في تطبيق الإسلام والرجوع
إلى أحكامه وتشريعاته النظيفة الطاهرة، نرى الدول الاستعمارية الكبرى تتنادى
لقتل عودتنا نحو الإسلام متهمة هذا الدين بأنه رجعية تارة وأنه وحشية تارة
أخرى وأنه يضطهد الأديان الأخرى والأقليات تارة ثالثة ولعل في قضية البترول
وسعي الدول الإسلامية للحصول على أثمان معقولة له والاستفادة بهذه الأثمان
خير دليل على السلوك الاستعماري الارهابي الأناني ضد هذه الدول الإسلامية فقد
اتهمتنا الدول الاستعمارية أننا نريد تدمير الاقتصاد العالمي، واستعباد
البشرية وتدمير الحضارة وذلك لمجرد المطالبة بشيء من حقوقنا وهددت تلك الدول
الاستعمارية عشرات المرات أنها ستحتل آبار النفط وتأخذه بالقوة إن عمدت دولنا
إلى منعه عن أعدائنا أو زيادة أسعاره.
وهكذا يصطلي العالم الآن بنار المادية الأنانية العالمية التي تمارسها الدول
الاستعمارية الكبرى التي تقوم الآن على استعباد الشعوب ونهب خيراتها وإيقاعها
فرائس للقلق والخوف والفوضى والاختلاف حتى يسهل عليهم استلاب خيراتها وسرقة
ثرواتها.
ولو كان الإيمان والتوحيد وخوف الله هو المسيطر على أخلاق الذين يملكون سياسة
الدول لعمت الرحمة والإحسان بين الشعوب وكانت نصرة الضعفاء وإعانة المساكين
ورفع الظلم هو الدين والمنهج الذي تسير عليه السياسات العالمية.
والخوف كل الخوف بعد ذلك أن يتسبب الإلحاد في تدمير العالم أجمع وذلك بعد وضع
العلم الحديث في يد الإنسان أسلحة تستطيع تدمير العالم أجمع.
ومن يشاهد الآن ما تلجأ إليه الدول الكبرى لتدمير الشعوب الصغيرة يجد عجباً
فهذه الدول تستخدم أسلحة رهيبة جداً لذلك كالمخدرات، والدعاية السوداء والحرب
النفسية والنساء وتربية العملاء وكذلك القتل والتشريد لكل العناصر الطيبة
المخلصة لأوطانها وأمتها.
وهكذا استطاع الإلحاد والبعد عن الله سبحانه وتعالى أن يحول المجتمع الإنساني
كله إلى مجتمع بغيض جداً يقوم على الظلم والقهر والنهب والخوف الدائم من
الدمار والخراب وهذا بدوره يؤدي إلى تدمير نفس الإنسان المعاصر وهروبه الدائم
من واقعه ولذلك انتشرت المخدرات والمهدئات والإغراق الجنسي، وكذلك دفعت هذه
السياسات العالمية الفرد إلى مزيد من الأنانية وحب الذات والحرص على المال
بكل سبيل وطلب النجاة لنفسه فحسب، والعيش ليومه فقط وهكذا خلق الإلحاد
الدوامة المعاصرة التي تلف الإنسان في عصره الراهن عصر القلق والأنانية
والإجرام والفوضى.
رابعاً: كيف نعالج ظاهرة الإلحاد
بعد أن عرفنا ظاهرة الإلحاد، وعرفنا أسبابها، وشرحنا آثارها المدمرة في نفس
الإنسان، ومجتمعه، وفي العلاقات السياسية العالمية أيضاً نأتي الآن إلى كيفية
علاج هذه الظاهرة وهنا نقول أن الإسلام دين جاء لخير الإنسان على هذه الأرض
وإسعاده فيها، وتهيئته لسكنى الجنة دار السعادة الأبدية قد كفل العلاج الناجح
المستأصل لهذه الظاهرة الخطيرة وإليك خطوطاً عريضة لكيفية علاج الإسلام لهذه
الظاهرة:
1- الدعوة إلى توحيد الله سبحانه:
جعل الإسلام دعوته تبدأ من توحيد الله سبحانه وتعالى والإيمان به والإقرار
أنه إله الكون وخالق الوجود وجعل الهدف الأول بل والأخير للرسالات السماوية
جميعاً هو إقرار هذه القضية العظيمة من قضايات الدين قال تعالى: {ولقد بعثنا
في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} وقال تعالى: {وما أمروا
إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، وذلك دين
القيمة} وجعل الله سبحانه وتعالى الهدف الأول من وجود الإنسان على هذه الأرض
هو أن يعبد الله سبحانه وتعالى قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا
ليعبدون} وبهذا جعل الدين الإسلامي هدف الإنسان على الأرض أن يعرف ربه سبحانه
وتعالى ويوحده، ويعبده وحده لا شريك له. وقد أبان الله هذه القضية وأظهرها
ودلل عليها بكل دليل حتى لا يترك فيها شكاً ولا ريباً لأحد فأقام سبحانه
وتعالى من آياته العظيمة في خلق السموات والأرض والناس ما يرشد العباد إلى
خالقهم العظيم، ويدلهم على ربهم القدير سبحانه الذي أحسن كل شيء خلقه وأمرهم
أن يتفكروا في خلق السموات والأرض، وفي خلق أنفسهم، وتعهد سبحانه أن يرى
العباد من آياته في الآفاق ما يحملهم حملاً على هذه القضية كما قال سبحانه
وتعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق}.
والأدلة الكونية المشاهدة ليست هي الأدلة الوحيدة التي نصبها الله للدلالة
عليه، بل إن الله سبحانه وتعالى أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ومؤيدين من قبله
سبحانه وتعالى بالأدلة والبراهين العظيمة على وحدانية الله سبحانه وتعالى،
وأنه خالق الكون، رب العالمين المستحق وحده للعباد. ولقد أتى الرسل صلوات
الله وسلامه عليهم بوصف تفصيلي بليغ لأسماء الله صفاته حتى يعظم الرب سبحانه
أكمل تعظيم ويعبد على الوجه الأمثل. وهكذا أصبحت الأدلة السمعية التي جاءت
بها الرسل مكملة ومتممة للأدلة البصرية العقلية التي نصبها الله سبحانه في
هذا الكون الفسيح وليس هذا فقط بل جعل الله سبحانه وتعالى شريعة الإسلام
وعباداته جميعاً دالة على الله داعية للتوحيد حتى يصبح المسلم في كل عمل من
أعماله موحداً ذاكراً لهذه الحقيقة العظيمة والصلاة والصيام والزكاة والحج
شرعت جميعها لتعرف الله وتدل عليه وتشعر المؤمن بقربه سبحانه وتعالى من عباده
واطلاعه عليهم ولذلك اشترط فيها جميعاً إخلاص النية لله سبحانه وتعلق القلب
أثناء فعلها بالله، وشغل اللسان وقت فعلها بذكر الله والدلالة عليه فإذا
عرفنا أن المسلم يمارس الصلاة خمس مرات في كل يوم وليلة وجوباً علمنا تبعاً
لذلك أن المسلم لا بد وأن يظل ليله ونهاره ذاكراً لربه منيباً إليه داعياً
له، وهذا كله ليظل بعيد تماماً عن الإلحاد بالله والكفر به.
وهكذا أصبح الإسلام منهجاً وطريقاً للتوحيد والصلة الدائمة بالله سبحانه
وتعالى والبعد الدائم عن الإلحاد بل عن كل ما يقطع صلة العبد بربه سبحانه
وتعالى.
2- العناية بالتربية الخلقية:
جعل الإسلام الهدف الدنيوي الأرضي لرسالته هو إقامة العدل في الأرض وإسعاد
الإنسان عليها، ولذلك وجه الإسلام وجوه الداخلين فيه إلى العمل لخير الناس
ولذلك أوجب على المسلمين جميعاً الدعوة إليه كما قال تعالى: {ولتكن منكم أمة
يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} أي
لتكونوا جميعاً أمة داعية إلى الخير، وقال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس
تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} وفي سبيل دعوة الناس إلى
الخير والهداية أمر الله المؤمنين بالصبر في ذلك وتحمل الأذى حتى لا ينفر
الناس من هذا الدين واتخاذ الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالحسنى سبيلاً
ومنهجاً، وهكذا امتلأت قلوب المسلمين بمحبة الخير للناس ورغبة هدايتهم
وإنقاذهم ظلمات الشرك والكفر والإلحاد إلى نور الهداية والإسلام.
وأمر الإسلام أتباعه أيضاً بالعدل والإحسان مع كل الناس حتى مع المشركين
والكافرين، والصبر على أذاهم إن كان في هذا خيراً ومصلحة، ورد إساءتهم
والانتصار منهم عن العدوان فقط كما قال تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين
يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} وأمر سبحانه بالعدل مع
الكافرين حتى مع ظلمهم وكراهيتنا لهم كما قال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين
آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا
اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} وهكذا فالإسلام
رسالة هداية ورحمة للناس جميعاً كما قال سبحانه وتعالى لنبي الإسلام نبي
الرحمة {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.
وجاء الإسلام بعد ذلك بالبر والإحسان والرحمة بالوالدين والأقربين واليتامى
والمساكين وكل محتاج، وجعل للجار حقوقاً على جاره، وللصديق حقاً على صديقه
وكذا للصاحب والزميل، بل لكل مسلم على مسلم حقوقاً كرد السلام، وإجابة الدعوة
وتشميت العاطس وعيادة المريض، واتباع الجنائز، ونهى عن ظلم المسلم واحتقاره،
وخذلانه، وهجرانه فوق ثلاث والبيع على بيعه، والخطبة على خطبته، والتجسس عليه
وحسده، وبغضه، وغيبته، وسبه وجعل هذا من الفسوق والإثم الذي يعاقب فاعله بأشد
العقوبات. وهكذا أصبح الإسلام رسالة إنسانية كاملة يأمر أتباعه بزرع الخير
أنى وجدوا، وفي أي مكان يكونون فيه، ومع كل إنسان ولو كان كافراً إلا أن يكون
محارباً خارجاً بالسيف على المسلمين، وأما إن كان مسالماً مستأمناً أو
معاهداً فقد أمرنا الله بالإحسان إليه وبره مع كفره أو فسقه وخروجه عن
الإيمان.
وبهذه الروح الطيبة التي يخلقها الإسلام في نفوس أتباعه ويغرسها فيهم ينشأ
المسلم الطيب القلب العلي الهمة نقي السريرة، فإذا توجه المسلم في كل ذلك نحو
ربه مراقباً لله عاملاً لمرضاته، مربداً وجهه كان أبعد الناس عن الإلحاد
والكفر والزندقة، أقرب الناس إلى ربه وخالقه ومولاه لأن أعماله وأقواله
جميعاً ستكون عبادة خالصة، وسيكون قلبه دائماً وأبداً متصلاً بربه ذاكراً له
شاكراً لأنعمه كما قال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب
العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}.
وهذا الإنسان الذي يتربى على الإسلام على هذا النحو لا يوجد في الأرض أطهر
منه ولا أنظف ولا أطيب فهو خير ما يدب عليها كما قال تعالى: {إن الذين آمنوا
وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية}.
ومثل هذا الإنسان الذي يراقب ربه عند كل نظره، وخاطرة، وفي كل عمل، ويتوجه
بكليته في جميع أموره نحو ربه وخالقه لا شك أنه سيكون بعد ذلك لبنة صالحة في
بناء صالح وبهذا تنشأ المجتمعات النظيفة التي تتخلص من الأثرة وحب النفس،
والتنافس البغيض والإغراق في الشهوات والملذات والأنانية والفردية.
وهكذا نجد أن هدفي الرسالة الإسلامية هما:
إخلاص الدين وتوحيده وعبادته وكذلك العمل لخير الإنسانية الطيبة الطاهرة التي
هي بحق البديل الصالح للنفسية الإلحادية الخبيثة المدمرة التي تعيش القلق
والأنانية والإجرام على ظهر هذه الأرض.
3- التصدي لشبهات الملاحدة:
الكفر كلمة تملأ الفم فقط وتجري على اللسان دون أن يكون لها نصيب من الواقع
فإنكار الله سبحانه وتعالى وإنكار البعث والجنة والنار وإنكار الرسالات كل
ذلك ليس إلا كلاماً وقذفاً يملأ أفواه قائليه ويجري على ألسنتهم دون أن يكون
له من الواقع نصيب، ولا يملك أهل هذا الكلام الباطل لإثباته إلا الجهل والجهل
ليس دليلاً.. فهم يقولون لم نر ولم نسمع ولا نعقل أن يكون للكون إله مدبر،
وأن يكون قد خلق الخلق لحكمة وغاية، وأن يكون هناك بعث بعد الموت، وأن تكون
جنة ونار، والحق أنهم يكابرون ولا يريدون أن يصدقوا لعلل أخرى ولا يدخل فيها
أنهم لم يعرفوا الحق ولم يروا الدليل، بل لظنهم أن الحق يحول بينهم وبين ما
يشتهون، أو أنه يحرمهم من بعض ما يحبون ويفرض عليهم كثيراً مما يكرهون وهذه
العلة هي علة السابقين في الكفر ومن سار على دربهم إلى يوم الدين كما قال
تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى}
فالكافر لا يملك يقيناً في نفي وجود الله ووحدانيته، وفي نفي رسالاته ولا
يملك إلا الظن وإلا فمن يملك دليلاً واحداً على أن محمداً وحاشاه صلى الله
عليه وسلم كاذب، وأنه عاش طيلة عمره يأمر الناس بالباطل ويوهمهم أن هناك جنة
وليس الأمر كذلك، ويوهمهم أن هناك ناراً وليس هذا بصحيح وأنه جاهد وعانى
وتحمل ما تحمل في سبيل قضية باطلة لا يؤمن بها.
الحق أن من كذب به قديماً وحديثاً لا يملك كما أسلفنا إلا الظن والظن ليس
دليلاً ولا يتبع إلا ما تهواه نفسه وبئس الهوى أن يكون قائداً ومرشداً
وإلهاً..
ولكن مع هذا لا يكفي الحق أن يكون حقاً ليعتنقه الناس ويذعنوا له، بل لا بد
للحق من حجة تدافع عنه وسلطان يقوم به، وإن فإن الباطل مهما كان زيفه
وخزعبلاته فإنه ينتصر بالقوة أحياناً وزخرفة القول أحياناً أخرى ولا يكون ذلك
بالطبع إلا في غيبة الحق، أو بجهل أهل الحق بطرق الجدال والإقناع ودحض الباطل
والرد على شبهات الملحدين، تماماً كما تكون صاحب قضية عادلة أحياناً كأن يكون
لك بيت ورثته كابراً عن كابر ثم يأتي آخر دخيل لا حق له بتاتاً فيدعي ملكه
لهذا البيت فإذا كان أقوى منك لساناً، وأعظم حيلة ومكراً فإنه يقلب حقك إلى
باطل وباطله إلى حق يغري بباطله من يملك بصراً وفؤاد فإن الناس تحكم دائماً
حسب ما تسمع وهذا ما يحدث دائماً في عرض قضية الإسلام والتوحيد في مقابل
قضايا الشرك والإلحاد كثيراً ما نجد وخاصة في أيامنا هذه أهل الباطل ألحن
بحجتهم وأكثر زخرفة لباطلهم بل وأكثر نشاطاً وحماساً ورغبة في نشره من أهل
الحق لحقهم، وهكذا وجد الإلحاد طريقه إلى النفوس والعقول، فالباطل لا يقنع
العقل، ولا يملأ الروح ولكن هالة الكلمات التي يتزخرف بها، وروعة الإخراج
التي يخطر بها يجعل الناس يرتمون في أحضانه ويتهافتون عليه.. هذا والإلحاد
إلى ذلك يهتك أستار المحرمات كلها فلا يبقى حراماً إلا ما لا تستطيع أن تصل
إليه، وإذا كان التوحيد يعد أهله بجنة بعد الموت فإن أهل الإلحاد ودعاته
يعدون من يتبعونهم في باطلهم بجنة على الأرض والنفوس الضعيفة تؤثر دائماً
العاجل على الآجل. هذا إلى فشل دعاة الإسلام كثيراً في بيان أن ما يحققه
الإسلام على الأرض من سلام واستقرار وسعادة هي الجنة الحقيقية المستطاعة على
هذه الأرض، وأن ما يدعو إليه الإلحاد من جنة الشهوات والأهواء ما هو إلا
الجحيم العاجل قبل الجحيم الآجل. ولكن كما قلنا آنفاً انحسرت عقيدة التوحيد
أمام ظلام الإلحاد لأن دعاة الحق لم يكونوا على مستوى الأحداث فيقابلون كل
شبهة للإلحاد بدليل من أدلة الحق..
ليس الدليل في كل وقت كلاماً:
ولا أعني بتاتاً أن يكون دليل الحق دائماً كلاماً بل الدليل قد يكون كلاماً
فعلاً فالإسلام والتوحيد نظام عملي وعبادي واعتقادي وإثبات الحق في الإسلام
لا يكون بمجرد الكلام فمن قال مثلاً أن الإسلام يعني التخلف ويحارب العلم
المادي كان الرد الطبيعي أن يمتلك المسلمون القوة وأن يتعلموا هذا العلم
المادي، وبذلك تبطل الشبهة، ومن قال أن الإسلام لا يصلح لحياة الناس كان الرد
الصحيح هو إقامة الإسلام العلمي الواقعي. وهكذا يصبح الحق حقاً والباطل
باطلاً.
باختصار يستحيل أن نعالج ظاهرة الإلحاد المعاصرة إلا إذا أقمنا دليلاً للرد
على كل شبهة وجعلنا العالم الواقعي هو الميدان لجهادنا وإثبات حقنا وأما إذا
أصبحت الكتب فقط والأوراق هي الميدان الذي نحارب من خلاله فإننا ولا شك نخسر
المعركة.
وهكذا يكون الرد على شبهات الإلحاد كلاماً في مقابل الكلام وعملاً في مقابل
الأعمال، فإذا أفرز الإلحاد انحرافاً ونجاسة وانحلالاً فيجب على التوحيد أن
يخلق طهراً وعفافاً واستقامة. وإذا كان الإلحاد يعني الظلم فإن التوحيد يعني
العدل ولن نفهم العدل إلا إذا كان واقعاً كما أننا لا نحس بالظلم إلا إذا كان
واقعاً. وإذا كان الإسلام كما نعتقد وهو كذلك هو الفلاح الحقيقي في الدنيا
ولا أقول صالحاً لحياة الناس فقط هذا الإسلام يجب أن يكون واقعاً مطبقاً وليس
قضية كلامية نصرخ بها هنا وهناك.
.. وهكذا إذا استطاع المسلمون أن يملكوا لكل شبهة جواباً وأن يكون الجواب كما
يرى الناس لا كما يسمعون فقط استطعنا حقاً أن نقضي على ظاهرة الإلحاد..
راجع
الإلحاد أسباب هذه الظاهرة وطرق علاجها
أولاً: مدخل وتعريف
مدخل:
يعاني العالم المعاصر من مشكلات كثيرة فبالرغم من التقدم المادي الهائل الذي
نعيش فيه والخيرات العظيمة التي وفرها العلم لحياة الإنسان ورفاهيته، إلا
أننا نعيش في ظل مشكلات رهيبة يتولد بعضها عن بعض، ويؤثر بعضها في وجود بعض،
ومن هذه المشكلات القلق النفسي والاضطراب، وانتشار الجريمة، وانعدام الأخلاق
والفردية والأنانية، والظلم بكل معانيه وصوره، والانحلال والفساد، فالفضائح
السياسية والمالية نسمع عنها كل يوم تقريباً، ولا يكاد يخلو بلد من بلدان
العالم من هذه المشكلات، ولم يستطع تقدم الإنسان المادي أن يقضي أن يخفف من
هذه المشكلات بل على العكس من ذلك كلما ارتقت حياة الإنسان المادية كلما ظهرت
وانتشرت هذه المشكلات.
وبالرغم من كثرة هذه المشكلات وتعددها فإن أعظم هذه المشكلات وأكبرها أثراً
في ظهور الفساد والاضطراب والقلق هي مشكلة الإلحاد. فهذه المشكلة في الحقيقة
هي أم المشكلات وسببها جميعاً. فماذا نعني بمشكلة الإلحاد؟ وما سبب هذه
المشكلة التي أصبحت إحدى مظاهر العصر؟ وكيف يعالج الإسلام هذه المشكلة؟ هذا
ما سنناقشه في الصفحات التالية بحول الله.
ماذا نعني بكلمة الإلحاد:
نعني بالإلحاد الكفر بالله والميل عن طريق أهل الإيمان والرشد. وظهور التكذيب
بالبعث والجنة والنار وتكريس الحياة كلها للدنيا فقط والإلحاد اليوم ظاهرة
عالمية فالعالم الغربي في أوربا وأمريكا وإن كان وارثاً في الظاهر للعقيدة
النصرانية التي تؤمن بالبعث والجنة والنار إلا أنه ترك هذه العقيدة الآن
وأصبح إيمان الناس هناك بالحياة الدنيا فقط وأصبحت الكنيسة مجرد تراث وأثر من
آثار الماضي، ولا تشكل في حياة الناس وعقولهم إلا شيئاً تافهاً جداً وقد أصبح
(الإلحاد) هو الدين الرسمي المنصوص عليه في كل دساتير البلدان الأوربية
والأمريكية ويعبر عن ذلك (بالعلمانية) تارة، و (اللادينية) تارة أخرى وكل ذلك
يعني الإلحاد والكفر بالله.
وفي الشرق تقوم أكبر دولة على الإلحاد وهي الدولة الروسية التي تحمل العقيدة
الشيوعية التي من بنودها رفض الغيب كله والقول بأن الحياة مادة فقط وأن صراع
الإنسان في هذه الحياة إنما هو من أجل العيش والبقاء فقط، وأما الدول الأخرى
فبالرغم من أنه كان ينتشر فيها أديان تقوم على بعض العقائد الغيبية
كالهندوكية والبوذية والكونفشيوسية إلا أن هذه الأديان اختفت الآن تقريباً
أمام مد الإلحاد الغربي والحياة العصرية.
وبالرغم من أن العالم الإسلامي ما زال يتمسك نوعاً ما بالإسلام ويقر بالتوحيد
ويؤمن بالبعث والجنة والنار إلا أن موجة الإلحاد العارمة تطغى عليه من كل
جانب، وتشكك أبناءه في دينهم وعقيدتهم ويحسن بنا ونحن نجابه هذه المشكلة أن
نبحث بحثاً موضوعياً علمياً في أسباب هذه المشكلة وكيفية علاجها.
ثانياً: أسباب مشكلة الإلحاد
منذ مائتي عام فقط لم تكن مشكلة الإلحاد بهذه الحدة والانتشار ولكن في
القرنين الأخيرين ظهرت عوامل كثيرة جعلت من الإلحاد والكفر بالله ديناً عاماً
منتشراً، ونستطيع أن نجمل أهم الأسباب في انتشار الإلحاد فيما يلي:
1- الكنيسة الأوروبية:
لقد كانت الكنيسة الأوروبية سبباً غير مباشر أحياناً وسبباً مباشراً أحياناً
أخرى في نشر الإلحاد والزندقة والكفر الكامل بوجود الله وذلك لأن القائمين
على هذه الكنيسة من الرهبان والقساوسة أدخلوا في دينهم كثيراً من الخرافات
والخزعبلات، وجعلوها عقائد دينية، كرفعهم عيسى عليه السلام من مرتبة البشرية
إلى الألوهية وظهور فكرة الخطيئة والصلب والخلاص وأضافوا إلى ذلك كثيراً من
الخرافات الدارجة عن الأرض والكون والحياة، وعندما بدأ عصر النهضة الأوربية
واكتشف بعض العلماء حقائق جديدة عن الأرض والكون والحياة هب الرهبان
والقساوسة ينكرون ذلك، ويتهمون من يعتقد بالحقائق الجديدة ويصدق بها بالكفر
والزندقة ويوعزون إلى السلطات الحاكمة بقتلهم وحرقهم بالنار، ولقد لقي كثير
من العلماء هذا المصير المؤلم جزاء مخالفتهم لآراء الكنيسة.. ولكن حركة العلم
لم تتوقف واستطاع العلماء أن يقدموا كل يوم براهين جديدة على نظرياتهم
العلمية وابتدأت آراء الكنيسة ومعتقداتها تهزم كل يوم هزيمة جديدة وكانت
الجولة في النهاية لعلماء المادة على رجال الكهنوت فاندفع الناس نحو الإيمان
بالعلم المادي كإله جديد سيحمل الرخاء والقوة والرفاهية للناس، وفتش الناس
أسرار الكنيسة فهالهم ما رأوه من فساد أخلاقي بين الرهبان والراهبات وأرادوا
التخلص إلى غير رجعة من السلطان الكهنوتي والقهر الزمني الذي مارسته الكنيسة
ضدهم ومن الإتاوات والضرائب التي فرضتها الكنيسة على رقابهم فكان الرفض
الكامل لكل المعتقدات الدينية والكراهية العامة لكل عقيدة تنادي بالإيمان
بالغيب واتهام الرسل جميعاً بالكذب والتدليس وهكذا برزت الموجة الأولى من
موجات الإلحاد العالمي.
2- مظالم العالم الرأسمالي:
ما كادت أوربا تتخلص جزئياً من سلطان الكنيسة ويكتشف الناس قوة البخار والآلة
حتى تحول الناس من الزراعة إلى الصناعة، وهرع أهل الإقطاع إلى التصنيع
فامتلكوا المصانع الكبيرة وحازوا الثروات الضخمة واستغلوا العمال استغلالاً
فاحشاً وانتشرت المظالم الهائلة وظهرت الطبقات المتفاوتة من رأسماليين جشعين
إلى عمال فقراء مظلومين، وكان رؤية هذا الظلم الجديد، ومساندة رجال الدين أو
سكوتهم عنه سبباً جديداً في انتشار الإلحاد والشك في وجود الله، واتهام الدين
بمساندة الظلم أو عجزة عن تقديم حل ناجح لمشكلات الإنسان على الأرض وابتدأت
العقائد الدينية تنحسر انحساراً جديداً عن حياة الناس وابتدأ الناس يعملون
أفكارهم في خلق عقائد تستطيع أن تحل مشكلاتهم على الأرض، وتقنع عقولهم وعجزت
الكنيسة الأوروبية أيضاً عن تقديم هذا العلاج للناس.
3- ظهور المذاهب الاقتصادية الالحادية:
كان العامل الثالث الذي ساعد على انتشار موجة الإلحاد هو ظهور المذاهب
الاقتصادية الإلحادية وخاصة الشيوعية التي بشر بها كارل ماركس (اليهودي
الألماني الذي تنصر والده) فبالرغم من أن هذا المذهب ينطلق من منطلق اقتصادي
ويستهدف حسب إعلان المبشرين به معالجة المظالم الرأسمالية الفردية والسيطرة
على مجتمع اشتراكي يعمل فيه كل إنسان حسب طاقته ويأخذ حسب حاجته فقط، إلا أن
القائمين على هذا المذهب الاقتصادي صبغوه بالصبغة العقائدية وأعطوه أبعاداً
أخرى غير اقتصادية فزعموا أن الحياة التي يعيشها الناس حياة مادية فقط وأنه
لا يوجد روح ولا بعث ولا إله، ولا حياة أخرى وأن الناس منذ وجدوا لا هم لهم
إلا المصالح المادية وزعموا أن ظهور الأديان إنما كان من فعل الأغنياء
ليلبسوا على الفقراء ويستغلوهم وأن الأخلاق كالأمانة والعفة والصدق ما هي إلا
نتاج خبيث للفكر الديني الذي يريد أن يخدم المصالح الرأسمالية، واعتقد
الشيوعيون لذلك أن الأنبياء ما كانوا إلا دجالين أرادوا بنشر أديانهم تخدير
الشعوب لتستنيم للظلم والقهر وبهذا أصبح هذا المذهب الاقتصادي بفلسفته التي
أطلقها على الأديان موجة جديدة من موجات الإلحاد والزندقة. ولعل هذه الموجة
الجديدة التي جاءت بها الشيوعية كانت أعتى موجات الإلحاد جميعاً وذلك أن
الشيوعية تبنت الدفاع عن المظلومين والفقراء وهذه قضية عادلة وإنسانية في
ذاتها ولذلك تبنى هؤلاء الفقراء والمظلومون وهم أغلبية الناس دائماً هذه
العقيدة الجديدة والدين الجديد لأنه يدافع عن مصالحهم ويتبنى قضاياهم وبالطبع
أخذوا هذا الدين بفلسفته العقائدية وليس بفكره الاقتصادي فقط.
وهكذا انتشر الإلحاد سريعاً مع هذا المذهب الاقتصادي الجديد وكان النجاح
الهائل الذي لاقته الدعوة الشيوعية بتفجير الثورة البلشفية في روسيا
والاستيلاء على الحكم عاملاً كاسحاً في هدم الأديان ونشر الإلحاد وانتقاله
ليصبح عقيدة عالمية.
ولما كانت الدعوة الشيوعية ترى أن نهاية العالم الحتمية إلى الشيوعية وتدعو
لذلك بل تنتهج الثورة والعنف الدموي سبيلاً إلى نشر الشيوعية فإنه سرعان ما
تأجج العالم من أقصاه إلى أقصاه بالثورات التي أججتها هذه العقيدة وابتدأت
التحولات القسرية لشعوب بأجمعها نحو الإلحاد كما حدث في الجمهوريات الإسلامية
في روسيا وكذلك في الصين وغيرها وما زال المد الإلحادي الذي تؤججه العقيدة
الماركسية يمتد عبر بلدان العالم جميعها. وها هي البلدان العربية التي كانت
معقلاً للإسلام تغزوها العقيدة الماركسية الإلحادية في عقر دارها.
4- اقتران الإلحادية بالقوة المادية:
السبب الرابع الذي شجع الناس على الكفر بالله والانطلاق نحو الإلحاد الكامل
هو اقتران القوة المادية بالإلحاد، وذلك أن الناس رأوا أن أوربا لم تتقدم
وتمتك القوى المادية وتكتشف أسرار الحياة إلا بعد أن تركت أفكار الكنيسة
وعقائدها. وأن دولة كروسيا لم تصبح دولة عظمى إلا بعد أن أعلنت أنها دولة
إلحادية، ورأوا مع ذلك أن الدول التي ما زالت تتمسك بالدين دولاً متخلفة في
القوة والصناعات فظن الناس لذلك أن الإلحاد سبب للقوة والعلم، وأن الدين يعني
التخلف والجهل، ولما كان للعلم المادي آثاره الظاهرة والباهرة من تيسير حياة
الإنسان على ظهر الأرض ونشر الرفاهية والرخاء فإن الناس انصرفوا عن العقائد
الدينية وآمنوا بالعلم المادي كإله جديد قادر على أن يذلل لهم كل الصعاب على
هذه الأرض، بل أطمعهم هذا الإله المادي أيضاً في الوصول إلى الكواكب الأخرى
وتسخيرها في خدمة الإنسان وهكذا ساعد اقتران العلم المادي والكشوف الجديدة
بالإلحاد على ظن الناس أن العلم ثمرة ونتيجة للإلحاد، وكان هذا خطأ عظيماً
عمت بسببه موجة الإلحاد.
5- هزيمة العالم الإسلامي أمام الهجمة الأوربية:
ما كاد الأوربيون يمتلكون القوة المادية، ويستخدمون الآلة، ويبنون المصانع
حتى اتجهوا إلى دول العالم بحثاً وراء الأسواق لمنتجاتهم الصناعية، وجلباً
للمواد الخام اللازمة للصناعة. ولما كانت هذه الدول تطمع في الحصول على ما
تريد بأبخس الأثمان أو بلا ثمن أصلاً فإنها استخدمت قوتها العسكرية النامية
للحصول على ما تريد. ولما كان العالم الإسلامي في غاية الضعف العسكري والسياسي،
فإنه لم يصمد طويلاً أمام الهجمة الأوربية الاستعمارية،
وكان للهزيمة العسكرية التي مني بها المسلمون أمام الغزو الأوربي أثرها
البعيد في زلزلة العقائد الإسلامية، وانحسارها أمام المد الإلحادي الذي حمله
المستعمرون الأوربيون، وطفقت الشعوب الإسلامية، تقلد المستعمر الأوربي وتتشبه
بأخلاقه وعاداته، وتدخل في عقيدته الإلحادية ظناً منها أن الأوربيين لم يصلوا
إلى القوة إلا برفضهم للدين، وكانت هذه خطيئة جديدة وسبباً آخر أسهم في
الظاهرة الإلحادية العالمية.
6- الحياة الجديدة ومباهج الحضارة:
فتح العلم المادي للناس أبواباً عظيمة من أبواب الرفاهية والترف ومغريات
الحياة، فالمراكب الفخمة من سيارات وطائرات، وقطارات، ووسائل الاتصال ووسائل
الراحة والتسلية، والمطاعم والمشارب الفاخرة، والألبسة الأنيقة، والتفنن
العجيب في التلذذ بالحياة، والجري وراء الشهوات والمغريات كل هذا فتح على
الناس ألواناً لم يعهدوها من الاستمتاع بالحياة، والانغماس في الشهوات
والملذات.
ولما كان الدين بوجه عام ينهى عن الإسراف ويأمر بالقصد والاعتدال، ويحرم
الاستمتاع بالحرام كالخمر والزنا والتعري فإن الناس الذين يجهلون سر أمر
الدين بذلك ظنوا أن هذه قيوداً على حريتهم، وحجراً لملذاتهم وشهواتهم
فازدادوا لذلك بعداً عن الدين، وكراهية لمن يذكرهم بالآخرة ومن يحذرهم من نار
أو يطمعهم في جنة. وبذلك أيضاً ازدادت غربة العقائد الدينية وانتشرت عقائد
الإلحاد والزندقة.
7- دوامة الحياة:
كان لانطلاق الناس الصارخ نحو العب من الحياة والاستمتاع بكل ما أفرزته
الحضارة الغربية من ملهيات ومغريات، واقتناء كل مستطاع من وسائلها الحديثة
أثره البالغ في انشغال الناس عن كل شيء حتى عن أنفسهم، فضاعف الناس ساعات
عملهم طمعاً في المزيد من الأجور ولتحصيل المزيد من وسائل الراحة كالغسالات
والثلاجات والسيارات، ونحوها، وفي سبيل ذلك أيضاً انطلقت المرأة من المنزل
لتشارك الرجل أعباء الحياة وتكاليفها الجديدة، وللحصول على مزيد من الرفاهية
والراحة، وابتدأ السعار المجنون والرغبة الجامحة نحو اقتناء مغريات الحياة
فتطلب ذلك زيادة في الجد والنشاط وانشغالاً بالليل والنهار، وهكذا بدأت دوامة
الحياة تطحن الإنسان المعاصر وتشغله في ليله ونهاره ولا تترك له فرصة للتفكير
في نفسه أو في مصيره فهو يعمل في متجره أو مصنعه ويعود لملهياته وشهواته ثم
يعود إلى عمله وهكذا دون أن تترك له الحياة المعاصرة وقتاً للفراغ يستطيع فيه
أن يفكر في حقائق الدين، وأن يجيب عن الأسئلة الخالدة التي تتردد داخل كل
نفس: من خلق هذا الكون؟ ومن خلقنا؟ ولماذا خلقنا؟ وإلى أين نسير؟ وهل لهذا
العالم نهاية؟ وهل له من بداية؟ ولماذا يعيش الناس متفاوتين فهذا غني وهذا
فقير، وهذا ظالم، وذاك مظلوم، وهذا قاتل، وذاك مقتول؟ وفيم كل هذا؟ بل بقيت
هذه الأسئلة حائرة في أكثر النفوس وبلا جواب وذلك أن الإنسان المعاصر
المستهلك الذي تطحنه دوامة الحياة لا يجد وقتاً للتفكير في كل هذه الأسئلة.
هذه هي الأسباب البارزة لوجود ظاهرة الإلحاد وانتشارها على هذا النحو الذريع
والآن كيف أثرت هذه الظاهرة في حياتنا المعاصرة وما آثارها على التحديد؟
ثالثاً: آثار الإلحاد في حياة الإنسان
ترك الإلحاد المعاصر آثاره الواضحة في سلوك الإنسان وفي أخلاق الأمم ونظام
الاجتماع، ونستطيع أن نجمل هذه الآثار فيما يلي:
1- القلق والصراع النفسي:
إن أول الآثار التي يخلفها الإلحاد في نفوس الأفراد هو القلق والحيرة
والاضطراب والصراع النفسي. وذلك أن داخل كل إنسان منا فطرة تلح عليه، وأسئلة
تتلجلج في صدره: لماذا خلقنا؟ ومن خلقنا؟ وإلى أين نسير؟ وإذا كانت زحمة
الحياة، وشغلها الشاغل يصرف الإنسان أحياناً عن الإمعان في جواب هذه الأسئلة،
والبحث عن سر الحياة والكون فإن الإنسان يصطدم كثيراً بمواقف وهزات تحمله
حملاً على التفكير في هذا السؤال، فالأمراض والكوارث، وفقد بعض الأهل
والأحبة، والمصائب التي تصيب الإنسان ولا بد تفرض على الإنسان أن يفكر في
مصيره ومستقبله، ولما كان الإلحاد عقيدة جهلانية لأنه يقوم على افتراض عدم
وجود إله - فإنه لا يقدم شيئاً يخرج هذا الإنسان من الحيرة والقلق والالتباس
ويبقى لغز الحياة محيراً للإنسان ويبقى رؤية الظلم والمصاعب التي يلاقيها
البشر في حياتهم كابوساً يخيم على النفس ويظل الإلحاد عاجزاً عن فهم غاية
الحياة والكون، ولا يقدم للإنسان إلا مجموعة من الظنون والافتراضات لا تقنع
عقلاً ولا تشفي غليلاً. ومع إلحاح نداء الفطرة الداخلي وتردد تلك الأسئلة
الخالدة في النفس يظل الإنسان قلقاً معذباً.
وقد كان للإنسان قديماً فسحة من الوقت ليخلو بنفسه ويطالع السماء بنجومها،
والبحر بروعته وسحره، والجبال بشموخها والصحراء بسعتها وامتدادها وروعتها.
والزهر والنبات وبهجته، وكان ذلك يفيده كثيراً في الاستدلال على الرب
والاعتراف بالصانع العظيم والخالق الكريم. ولكن الإنسان المعاصر أصبحت تحاصره
المدينة بعمارتها الشامخة وطرقها الحديثة وأضوائها وضوضائها وملهيات الحياة
ومغرياتها فتشل فكره عن التفكير في الخالق والاستدلال على الله. فيزيد هذا في حيرته وارتباكه.
وقد كان المجتمع القديم أيضاً مجتمعاً ساذجاً فطرياً يعرف الناس فيه بعضهم
بعضاً ويتعاونون في الملمات ويفزع بعضهم البعض في المصائب. ولكن المجتمع
الحديث مجتمع المدينة الصاخب باعد الناس بعضهم عن بعض وأصبح لكل فرد منهم
همومه ومشكلاته، وأصبح الإنسان المعاصر لا يجد من يشكو إليه قلقه ومشكلاته
ولا يتصور أن يجد من يمد له يد العون لو زلت قدمه وأصابته مشكلة أو فاقة
وبذلك تعاظم الخوف من المستقبل والحذر من الأيام، واهتم الناس بأنفسهم
وأصبحوا حريصين ماديين يجمعون ويدخرون ولا ينفقون. ومع الخوف من المستقبل
والحذر من الأيام زاد القلق والاضطراب والتوجس والتوجع. ولو كان ثمة إيماناً
بالله وتصديقاً بالغيب ومعرفة بالقضاء والقدر لحلت هذه المعضلة ولكن الإلحاد
الذي يفترض ويزعم أن الإنسان يقوم وحده في هذا الكون وأنه لا يوجد إله يقيمه
ويرزقه كرس قلق الإنسان وخوفه من المستقبل واتجاهه للأنانية والفردية.
2- الأنانية والفردية:
كانت النتيجة الحتمية للقلق النفسي والخوف من الأيام هي اتجاه الإنسان نحو
الفردية والأنانية ونعني بالأنانية اتجاه الإنسان لخدمة مصالحه الخاصة وعدم
التفكير في الآخرين - فالدين الذي يحث الإنسان على بذل المعروف للغير
والإحسان للناس ابتغاء مرضاة الله بانحساره عن حياة الإنسان حل مكانه التفكير
في النفس فقط وبذلك بدأ الناس في عصور الإلحاد المظلمة هذه لا يأبهون بغيرهم
من بني البشر وشيئاً فشيئاً قلت العناية بالفقراء والمحتاجين ثم بالأهل
والأقربين ثم بالوالدين وأيضاً بالزوجة والأولاد والمطلع على أحوال المجتمع
الإلحادي في الغرب والشرق يرى إلى أي حد أصبح الناس ماديين أنانيين لا يهتم
الفرد إلا في نفسه، ولا يهتم بالآخرين إلا بقدر ما يعود هذا على نفسه من
منافع. وقد ضاعف هذه الأنانية والمادية اتجاه الناس نحو العب من الملذات
والشهوات التي يسرتها الحضارة الحديثة وأباحتها قوانين الإلحاد التي تكفر
بالآخرة وتجعل حياة الإنسان الخاصة ملكاً له. فانطلق الناس لذلك نحو شهوات
أنفسهم يستزيدون منها بقدر طاقتهم وجهودهم وأهملوا في سبيل ذلك العطف
والإحسان والعناية بالآخرين. وبذلك نشأن الإنسان المادي النفعي المعاصر الذي
أصبح علماً ورمزاً للحضارة الأوربية الإلحادية التي تغزو العالم الآن.
3- فقد الوازع والنزوع إلى الإجرام:
لأن الإلحاد لا يربي الضمير، ولا يخوف الإنسان من إله قوي قادر يراقب تصرفاته
وأعماله في هذه الأرض فإن الملحد ينشأ غليظ القلب عديم الإحساس قد فقد الوازع
الذي يردعه عن الظلم ويأمره بالإحسان والرحمة. بل على العكس من ذلك فإن
الإلحاد يعلم أتباعه أنهم وجدوا هكذا صدفة ولم يخلقهم خالق أو أنهم خلقوا
أنفسهم وأنهم حيوانات أرضية كسائر الحيوانات التي تدب على الأرض وبذلك يغلظ
إحساسهم ويتنامى شعورهم بالحيوانية والانحطاط ويتجهون إلى إثبات ذواتهم
بالإغراق في الشهوات والملذات، وإذا منعتهم ظروفهم المعاشية أو القوانين
الوضعية البشرية عن بلوغ غاياتهم وأهدافهم الحيوانية فإنهم يقومون بالتغلب
على تلك الظروف وذلك إما بالحيلة والمكر وإما بالقوة والغلبة وفي كلا الأمرين
لا يجد الإنسان الملحد رادعاً داخلياً يردعه لأنه لا يخاف رباً ولا يرجو
حساباً. ولا يبقى أمام الملحد من وازع إلا القانون البشري أو ظروفه الواقعية
وهذه أمور يمكن التغلب عليها بصور كثيرة وخاصة في المجتمع المعاصر الذي تفنن
الإنسان فيه في طرق الإجرام والتهرب من القوانين. وقد يبقى في بعض الأنفس
التي تدين بالإلحاد شيء من نداء الفطرة ومحاسبة الضمير ولكن هذا النداء
الداخلي المسمى بالضمير سرعان ما يزول ويتلاشى في زحمة الحياة الراكضة وأمام مغرياتها الكثيرة.
وهذا الأثر من أعظم آثار الإلحاد في حياة الإنسان فعالمنا المعاصر هو عالم
الجريمة والخوف. فكل يوم تطالعنا وسائل الاتصال من صحف وكتب وإذاعة وغيرها
بأخبار الجرائم البشعة التي بلغت من الحدة والعنف والشذوذ والتلذذ بتعذيب
الآخرين وشرب دمائهم. والتمتع برؤية صراخهم واستغاثاتهم -هذا إلى حوادث
السرقة والسطو والاغتصاب والقتل التي تتزايد يوماً بعد يوم- ولعل حادثة
انقطاع النور المشهورة عام 1977م عن مدينة نيويورك حيث اكتشف الناس في الصباح
أن آلاف المحلات التجارية والمخازن والبيوت قد نهبت عن آخرها وأنه اشترك في
هذه السرقة الجماعية معظم الناس على اختلاف درجاتهم وطبقاتهم وأعمارهم حتى
رجال الشرطة أنفسهم المكلفون بالحراسة شاركوا هذا المهرجان الشائن في السرقة والسطو.
ويقدر الخبراء أنه لو استمر انقطاع النور هكذا أسبوعاً واحداً ولم تتدخل فرق
من الجيش لخربت المدينة عن آخرها. فكيف إذا تراخى الأمن في ظل الأزمات أو
الحروب لا شك أن هذا المجتمع سيأكل بعضه بعضاً. ولا شك أيضاً أن هذه ثمرات
حتمية من ثمار الإلحاد.
4- هدم النظام الأسري:
كان للإلحاد آثار مدمرة في الحياة الاجتماعية للإنسان فالبعد عن الله سبحانه
وتعالى لم يكن من آثار تدميره النفسية البشرية فقط وإنما كان من لوازم ذلك
تدمير المجتمع الإنسان وتفكيكه وذلك أن نظام الاجتماع البشري لا يكون صالحاً
سليماً إلا إذا كانت اللبنات التي تشكل هذا النظام صالحة سليمة، وإذا فسدت
هذه اللبنات فسد تبعاً لذلك النظام الاجتماعي بأسره ولذلك كان من نتائج
الإلحاد أيضا هدم النظام الأسري.
ومعلوم أن الأسرة هي الخلية الأولى في النظام الاجتماعي. وعندما فسدت البشرية
فسدت الروابط الأسرية فالزوج الفاسد المنحل لا بد وأن يمتد فساده إلى زوجته
وأولاده، والزوجة الفاسدة التي لا تراقب الله سبحانه وتعالى ولا تخافه لا بد
وأن ينعكس هذه على أسرتها كلها: زوجها وأولادها، وكذلك الابن الفاسد الذي لا
يراعي حرمة لوالد أو والدة، ولا حقاً لله سبحانه وتعالى وكذلك البنت الفاسدة
وهكذا ابتدأنا نسمع في ظل الإلحاد المعاصر عن انهيار عقد الزواج الشرعي
الشريف الذي يقصر المرأة على رجل واحد وتقيم علاقات متوازنة بين الأزواج
ويوزع المسئولية في الأسرة توزيعاً عادلاً موافقاً للفطرة البشرية التي خلق
الله عليها كلاً من الذكر والأنثى، وبانهيار عقد الزواج الشرعي أصبحت علاقات
الأزواج علاقة متعة ومنفعة مجردة وبذلك قلت التضحيات التي لا بد منها فالزوج
المخلص الوفي لا بد وأن يضحي بشيء من شهواته في سبيل أسرته، والزوجة الوفية
كذلك التي قد تضطرها ظروفها أن تعيش مع زوج فقير أو مريض وأن تكافح لخدمة
غيرها وتربية أولادها. ولكن في ظل العقيدة الإلحادية التي لا تؤمن بالآخرة
ولا بالجزاء، فإنه لم يبق ما يحمل بالزوج أو الزوجة على التضحية والفداء.
وكذلك الحال بالنسبة للأبناء أيضاً الذين يتعلمون في ظل التوحيد أن يعبدوا
الله بالإحسان إلى آبائهم، وأن يجاهدوا في سبيل مرضاتهم وكفالتهم في أحوال
العجز والكبر ولكن العقيدة الإلحادية التي تقوم على النفعية المادية تنظر إلى
خدمة الآخرين على أنه سخافة وغباء ما دام أنه لا يحقق نفعاً قريباً. وبهذا
ماتت المشاعر الجميلة والروابط الطبيعية التي كانت تمسك بزمام الأسرة وتؤلف
بين قلوب أفرادها.
ولم تقتصر الآثار السيئة للإلحاد على هذا الفساد في الأسرة، بل تعدى ذلك إلى
أنواع عجيبة من الفساد ففي ظل الانهيار الخلفي والرغبة المجنونة في جني
الملذات والركض وراء الشهوات الجنسية أصبح التمسك بعقد الزواج الشرعي نوعاً
من الغباء وبذلك أيقن الرجال في كثير من الأحيان أن أبناءهم الذين ولدوا على
فراشهم ليسوا من ظهورهم بالضرورة وأيقن الأخوة كذلك أنهم لا ينتمون إلى أب
واحد وبذلك انهدمت مشاعر القربى والرحم التي لا يمكن أن تنشأ إلا في مجتمع
نظيف طاهر. وبانهيار مشاعر القربى والرحم كالأخوة والأبوة والعمومة ونحوها
انهدمت متعة عظيمة من المتع الروحية والنفسية التي لا غنى عنها للإنسان وحل
مكان ذلك المتع الجسدية المادية البليدة وبهذا تحول الإنسان شيئاً فشيئاً نحو
الحيوانية والمادية وتفككت بذلك أيضاً عروة الأرحام والقرابة بعد أن تفككت
الأسرة وقيمها الجميلة. وبهذا أضحى الطلاق وهجران البيوت وخيانة الزوجية
شيئاً عادياً يومياً، وأصبح الرجل يرى أصدقاء ابنته ولا يأبه لذلك بل يدفعها
لهذا، وكذلك يرى صديقات ابنه ولا يأبه لذلك لأن الناس آمنوا في ظل الإلحاد أن
على كل إنسان أن يسلك السبيل الذي يريد، وأن كل إنسان مسئول عن نفسه فقط.
وبهذا انهدمت الخلية الأولى من خلايا المجتمع الإنساني.
5- تخريب المجتمعات:
الأسرة هي الخلية الأولى من البناء الاجتماعي وبفسادها لا شك يفسد النظام
كله. لأن الأسرة هي المحضن الأول للإنسان وإذا فسد الإنسان فسدت اللبنات التي
تكون هذا البناء ولا بد. ولما كانت الأسرة تقذف إلى المجتمع كل يوم بلبنات
فاسدة وتأتي هذه اللبنات الفاسدة وتأخذ مكانها في الهرم الاجتماعي الكبير
فالفرد يكون مسئولاً في دائرة أو حاكماً أو طبيباً أو مهندساً أو مدرساً أو
عاملاً.. وكل فرد من أفراد المجتمع يتعامل مع المحيطين به بالأخلاق والسلوك
الذي كسبه في حياته وخاصة في مراحل نشأته الأولى في أسرته وهكذا تطفح
الأنانية والفردية وغياب مراقبة الله سبحانه وتعالى في جميع المعاملات وأنماط
السلوك التي يمارسها الفرد، وهكذا تصبح العلاقات التي تحكم تصرفات الفرد في
شكل هذا المجتمع علاقات المنافع المادية والمصالح الشخصية، وتختفي التضحية
والفدائية والصبر والرغبة في إسعاد الآخرين ونفع الناس وهكذا تتحول الدوائر
الحكومية والمؤسسات الخاصة وجميع أجهزة الدولة إلى أن تصبح مطايا للمآرب
الشخصية، وهكذا لا يزال الناس يكتشفون في كل يوم الفساد الإداري والوظيفي
واستغلال النفوذ، وأخذ الرشوة والتحايل على القوانين والتلاعب بأموال الدولة
وكذلك الظلم والقهر.
إن المجتمع الحديث في ظل الإلحاد أصبح شبيهاً بمجتمع الغابة الذي يحاول كل
حيوان فيه أن يفترس الآخر وبهذا يلجأ الضعيف إلى التخفي والخداع ويلجأ القوي
إلى البطش والقسوة والعنف.
والذين يطالعون أحوال المجتمع الغربي الآن يرون إلى أي حد أصبحت الجريمة
عملاً يومياً، وسلوكاً منظماً متطوراً فبالرغم من توفر الزنا والرذيلة ينتشر
الاغتصاب للنساء بصورة مذهلة، وبالرغم من توفر الفرص للعمل والإنتاج نجد
السطو والسرقات المسلحة التي يمارسها الناس على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم
وأسنانهم ولا يكاد يمر يوم واحد حتى تقع في كل مدينة عشرات بل مئات من حوادث
القتل والإجرام.
وهكذا في ظل الإلحاد وعدم مراقبة الله سبحانه وتعالى وتذكر الآخرة تتحول
المجتمعات إلى مستنقع آسن للرذيلة والفجور، وتصبح الجريمة عملاً يومياً ويصبح
التحايل على القانون واستغلال النفوذ وظلم القادر للضعيف ونفاق الضعيف أمام
القوي خلقاً وديناً ومنهجاً جديداً تسير عليه المجتمعات المنحلة البعيدة عن
الله سبحانه وتعالى.
6- الإجرام السياسي:
لعل أعظم آثار الإلحاد هو آثاره في السياسة العالمية، ونظام العلاقات بين
الدول. وذلك أن الأخلاق المادية الإلحادية التي جعلت قلب الإنسان يمتلئ
بالقسوة والأنانية دفعت الإنسان إلى تطبيق هذه القسوة والأنانية في مجال
العلاقات السياسية العالمية أيضاً. ولذلك رأينا الدول الاستعمارية الكبرى
تلجأ إلى وسائل خسيسة جداً في استعباد الشعوب الضعيفة والحصول على خيراتها
ونهب ثرواتها وبلادنا الإسلامية بوجه عام والعربية بوجه خاص هي أشقى البلاد
الضعيفة بهذه السياسات المادية الالحادية فهي تقع دائماً تحت التهديد بالقهر
والتدخل العسكري كلما حاولت دولنا الإسلامية أن تحصل على شيء من حقوقها
الضائعة أو أموالها المنهوبة. بل كلما فكرت دولنا في تطبيق الإسلام والرجوع
إلى أحكامه وتشريعاته النظيفة الطاهرة، نرى الدول الاستعمارية الكبرى تتنادى
لقتل عودتنا نحو الإسلام متهمة هذا الدين بأنه رجعية تارة وأنه وحشية تارة
أخرى وأنه يضطهد الأديان الأخرى والأقليات تارة ثالثة ولعل في قضية البترول
وسعي الدول الإسلامية للحصول على أثمان معقولة له والاستفادة بهذه الأثمان
خير دليل على السلوك الاستعماري الارهابي الأناني ضد هذه الدول الإسلامية فقد
اتهمتنا الدول الاستعمارية أننا نريد تدمير الاقتصاد العالمي، واستعباد
البشرية وتدمير الحضارة وذلك لمجرد المطالبة بشيء من حقوقنا وهددت تلك الدول
الاستعمارية عشرات المرات أنها ستحتل آبار النفط وتأخذه بالقوة إن عمدت دولنا
إلى منعه عن أعدائنا أو زيادة أسعاره.
وهكذا يصطلي العالم الآن بنار المادية الأنانية العالمية التي تمارسها الدول
الاستعمارية الكبرى التي تقوم الآن على استعباد الشعوب ونهب خيراتها وإيقاعها
فرائس للقلق والخوف والفوضى والاختلاف حتى يسهل عليهم استلاب خيراتها وسرقة
ثرواتها.
ولو كان الإيمان والتوحيد وخوف الله هو المسيطر على أخلاق الذين يملكون سياسة
الدول لعمت الرحمة والإحسان بين الشعوب وكانت نصرة الضعفاء وإعانة المساكين
ورفع الظلم هو الدين والمنهج الذي تسير عليه السياسات العالمية.
والخوف كل الخوف بعد ذلك أن يتسبب الإلحاد في تدمير العالم أجمع وذلك بعد وضع
العلم الحديث في يد الإنسان أسلحة تستطيع تدمير العالم أجمع.
ومن يشاهد الآن ما تلجأ إليه الدول الكبرى لتدمير الشعوب الصغيرة يجد عجباً
فهذه الدول تستخدم أسلحة رهيبة جداً لذلك كالمخدرات، والدعاية السوداء والحرب
النفسية والنساء وتربية العملاء وكذلك القتل والتشريد لكل العناصر الطيبة
المخلصة لأوطانها وأمتها.
وهكذا استطاع الإلحاد والبعد عن الله سبحانه وتعالى أن يحول المجتمع الإنساني
كله إلى مجتمع بغيض جداً يقوم على الظلم والقهر والنهب والخوف الدائم من
الدمار والخراب وهذا بدوره يؤدي إلى تدمير نفس الإنسان المعاصر وهروبه الدائم
من واقعه ولذلك انتشرت المخدرات والمهدئات والإغراق الجنسي، وكذلك دفعت هذه
السياسات العالمية الفرد إلى مزيد من الأنانية وحب الذات والحرص على المال
بكل سبيل وطلب النجاة لنفسه فحسب، والعيش ليومه فقط وهكذا خلق الإلحاد
الدوامة المعاصرة التي تلف الإنسان في عصره الراهن عصر القلق والأنانية
والإجرام والفوضى.
رابعاً: كيف نعالج ظاهرة الإلحاد
بعد أن عرفنا ظاهرة الإلحاد، وعرفنا أسبابها، وشرحنا آثارها المدمرة في نفس
الإنسان، ومجتمعه، وفي العلاقات السياسية العالمية أيضاً نأتي الآن إلى كيفية
علاج هذه الظاهرة وهنا نقول أن الإسلام دين جاء لخير الإنسان على هذه الأرض
وإسعاده فيها، وتهيئته لسكنى الجنة دار السعادة الأبدية قد كفل العلاج الناجح
المستأصل لهذه الظاهرة الخطيرة وإليك خطوطاً عريضة لكيفية علاج الإسلام لهذه
الظاهرة:
1- الدعوة إلى توحيد الله سبحانه:
جعل الإسلام دعوته تبدأ من توحيد الله سبحانه وتعالى والإيمان به والإقرار
أنه إله الكون وخالق الوجود وجعل الهدف الأول بل والأخير للرسالات السماوية
جميعاً هو إقرار هذه القضية العظيمة من قضايات الدين قال تعالى: {ولقد بعثنا
في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} وقال تعالى: {وما أمروا
إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، وذلك دين
القيمة} وجعل الله سبحانه وتعالى الهدف الأول من وجود الإنسان على هذه الأرض
هو أن يعبد الله سبحانه وتعالى قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا
ليعبدون} وبهذا جعل الدين الإسلامي هدف الإنسان على الأرض أن يعرف ربه سبحانه
وتعالى ويوحده، ويعبده وحده لا شريك له. وقد أبان الله هذه القضية وأظهرها
ودلل عليها بكل دليل حتى لا يترك فيها شكاً ولا ريباً لأحد فأقام سبحانه
وتعالى من آياته العظيمة في خلق السموات والأرض والناس ما يرشد العباد إلى
خالقهم العظيم، ويدلهم على ربهم القدير سبحانه الذي أحسن كل شيء خلقه وأمرهم
أن يتفكروا في خلق السموات والأرض، وفي خلق أنفسهم، وتعهد سبحانه أن يرى
العباد من آياته في الآفاق ما يحملهم حملاً على هذه القضية كما قال سبحانه
وتعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق}.
والأدلة الكونية المشاهدة ليست هي الأدلة الوحيدة التي نصبها الله للدلالة
عليه، بل إن الله سبحانه وتعالى أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ومؤيدين من قبله
سبحانه وتعالى بالأدلة والبراهين العظيمة على وحدانية الله سبحانه وتعالى،
وأنه خالق الكون، رب العالمين المستحق وحده للعباد. ولقد أتى الرسل صلوات
الله وسلامه عليهم بوصف تفصيلي بليغ لأسماء الله صفاته حتى يعظم الرب سبحانه
أكمل تعظيم ويعبد على الوجه الأمثل. وهكذا أصبحت الأدلة السمعية التي جاءت
بها الرسل مكملة ومتممة للأدلة البصرية العقلية التي نصبها الله سبحانه في
هذا الكون الفسيح وليس هذا فقط بل جعل الله سبحانه وتعالى شريعة الإسلام
وعباداته جميعاً دالة على الله داعية للتوحيد حتى يصبح المسلم في كل عمل من
أعماله موحداً ذاكراً لهذه الحقيقة العظيمة والصلاة والصيام والزكاة والحج
شرعت جميعها لتعرف الله وتدل عليه وتشعر المؤمن بقربه سبحانه وتعالى من عباده
واطلاعه عليهم ولذلك اشترط فيها جميعاً إخلاص النية لله سبحانه وتعلق القلب
أثناء فعلها بالله، وشغل اللسان وقت فعلها بذكر الله والدلالة عليه فإذا
عرفنا أن المسلم يمارس الصلاة خمس مرات في كل يوم وليلة وجوباً علمنا تبعاً
لذلك أن المسلم لا بد وأن يظل ليله ونهاره ذاكراً لربه منيباً إليه داعياً
له، وهذا كله ليظل بعيد تماماً عن الإلحاد بالله والكفر به.
وهكذا أصبح الإسلام منهجاً وطريقاً للتوحيد والصلة الدائمة بالله سبحانه
وتعالى والبعد الدائم عن الإلحاد بل عن كل ما يقطع صلة العبد بربه سبحانه
وتعالى.
2- العناية بالتربية الخلقية:
جعل الإسلام الهدف الدنيوي الأرضي لرسالته هو إقامة العدل في الأرض وإسعاد
الإنسان عليها، ولذلك وجه الإسلام وجوه الداخلين فيه إلى العمل لخير الناس
ولذلك أوجب على المسلمين جميعاً الدعوة إليه كما قال تعالى: {ولتكن منكم أمة
يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} أي
لتكونوا جميعاً أمة داعية إلى الخير، وقال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس
تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} وفي سبيل دعوة الناس إلى
الخير والهداية أمر الله المؤمنين بالصبر في ذلك وتحمل الأذى حتى لا ينفر
الناس من هذا الدين واتخاذ الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالحسنى سبيلاً
ومنهجاً، وهكذا امتلأت قلوب المسلمين بمحبة الخير للناس ورغبة هدايتهم
وإنقاذهم ظلمات الشرك والكفر والإلحاد إلى نور الهداية والإسلام.
وأمر الإسلام أتباعه أيضاً بالعدل والإحسان مع كل الناس حتى مع المشركين
والكافرين، والصبر على أذاهم إن كان في هذا خيراً ومصلحة، ورد إساءتهم
والانتصار منهم عن العدوان فقط كما قال تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين
يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} وأمر سبحانه بالعدل مع
الكافرين حتى مع ظلمهم وكراهيتنا لهم كما قال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين
آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا
اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} وهكذا فالإسلام
رسالة هداية ورحمة للناس جميعاً كما قال سبحانه وتعالى لنبي الإسلام نبي
الرحمة {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.
وجاء الإسلام بعد ذلك بالبر والإحسان والرحمة بالوالدين والأقربين واليتامى
والمساكين وكل محتاج، وجعل للجار حقوقاً على جاره، وللصديق حقاً على صديقه
وكذا للصاحب والزميل، بل لكل مسلم على مسلم حقوقاً كرد السلام، وإجابة الدعوة
وتشميت العاطس وعيادة المريض، واتباع الجنائز، ونهى عن ظلم المسلم واحتقاره،
وخذلانه، وهجرانه فوق ثلاث والبيع على بيعه، والخطبة على خطبته، والتجسس عليه
وحسده، وبغضه، وغيبته، وسبه وجعل هذا من الفسوق والإثم الذي يعاقب فاعله بأشد
العقوبات. وهكذا أصبح الإسلام رسالة إنسانية كاملة يأمر أتباعه بزرع الخير
أنى وجدوا، وفي أي مكان يكونون فيه، ومع كل إنسان ولو كان كافراً إلا أن يكون
محارباً خارجاً بالسيف على المسلمين، وأما إن كان مسالماً مستأمناً أو
معاهداً فقد أمرنا الله بالإحسان إليه وبره مع كفره أو فسقه وخروجه عن
الإيمان.
وبهذه الروح الطيبة التي يخلقها الإسلام في نفوس أتباعه ويغرسها فيهم ينشأ
المسلم الطيب القلب العلي الهمة نقي السريرة، فإذا توجه المسلم في كل ذلك نحو
ربه مراقباً لله عاملاً لمرضاته، مربداً وجهه كان أبعد الناس عن الإلحاد
والكفر والزندقة، أقرب الناس إلى ربه وخالقه ومولاه لأن أعماله وأقواله
جميعاً ستكون عبادة خالصة، وسيكون قلبه دائماً وأبداً متصلاً بربه ذاكراً له
شاكراً لأنعمه كما قال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب
العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}.
وهذا الإنسان الذي يتربى على الإسلام على هذا النحو لا يوجد في الأرض أطهر
منه ولا أنظف ولا أطيب فهو خير ما يدب عليها كما قال تعالى: {إن الذين آمنوا
وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية}.
ومثل هذا الإنسان الذي يراقب ربه عند كل نظره، وخاطرة، وفي كل عمل، ويتوجه
بكليته في جميع أموره نحو ربه وخالقه لا شك أنه سيكون بعد ذلك لبنة صالحة في
بناء صالح وبهذا تنشأ المجتمعات النظيفة التي تتخلص من الأثرة وحب النفس،
والتنافس البغيض والإغراق في الشهوات والملذات والأنانية والفردية.
وهكذا نجد أن هدفي الرسالة الإسلامية هما:
إخلاص الدين وتوحيده وعبادته وكذلك العمل لخير الإنسانية الطيبة الطاهرة التي
هي بحق البديل الصالح للنفسية الإلحادية الخبيثة المدمرة التي تعيش القلق
والأنانية والإجرام على ظهر هذه الأرض.
3- التصدي لشبهات الملاحدة:
الكفر كلمة تملأ الفم فقط وتجري على اللسان دون أن يكون لها نصيب من الواقع
فإنكار الله سبحانه وتعالى وإنكار البعث والجنة والنار وإنكار الرسالات كل
ذلك ليس إلا كلاماً وقذفاً يملأ أفواه قائليه ويجري على ألسنتهم دون أن يكون
له من الواقع نصيب، ولا يملك أهل هذا الكلام الباطل لإثباته إلا الجهل والجهل
ليس دليلاً.. فهم يقولون لم نر ولم نسمع ولا نعقل أن يكون للكون إله مدبر،
وأن يكون قد خلق الخلق لحكمة وغاية، وأن يكون هناك بعث بعد الموت، وأن تكون
جنة ونار، والحق أنهم يكابرون ولا يريدون أن يصدقوا لعلل أخرى ولا يدخل فيها
أنهم لم يعرفوا الحق ولم يروا الدليل، بل لظنهم أن الحق يحول بينهم وبين ما
يشتهون، أو أنه يحرمهم من بعض ما يحبون ويفرض عليهم كثيراً مما يكرهون وهذه
العلة هي علة السابقين في الكفر ومن سار على دربهم إلى يوم الدين كما قال
تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى}
فالكافر لا يملك يقيناً في نفي وجود الله ووحدانيته، وفي نفي رسالاته ولا
يملك إلا الظن وإلا فمن يملك دليلاً واحداً على أن محمداً وحاشاه صلى الله
عليه وسلم كاذب، وأنه عاش طيلة عمره يأمر الناس بالباطل ويوهمهم أن هناك جنة
وليس الأمر كذلك، ويوهمهم أن هناك ناراً وليس هذا بصحيح وأنه جاهد وعانى
وتحمل ما تحمل في سبيل قضية باطلة لا يؤمن بها.
الحق أن من كذب به قديماً وحديثاً لا يملك كما أسلفنا إلا الظن والظن ليس
دليلاً ولا يتبع إلا ما تهواه نفسه وبئس الهوى أن يكون قائداً ومرشداً
وإلهاً..
ولكن مع هذا لا يكفي الحق أن يكون حقاً ليعتنقه الناس ويذعنوا له، بل لا بد
للحق من حجة تدافع عنه وسلطان يقوم به، وإن فإن الباطل مهما كان زيفه
وخزعبلاته فإنه ينتصر بالقوة أحياناً وزخرفة القول أحياناً أخرى ولا يكون ذلك
بالطبع إلا في غيبة الحق، أو بجهل أهل الحق بطرق الجدال والإقناع ودحض الباطل
والرد على شبهات الملحدين، تماماً كما تكون صاحب قضية عادلة أحياناً كأن يكون
لك بيت ورثته كابراً عن كابر ثم يأتي آخر دخيل لا حق له بتاتاً فيدعي ملكه
لهذا البيت فإذا كان أقوى منك لساناً، وأعظم حيلة ومكراً فإنه يقلب حقك إلى
باطل وباطله إلى حق يغري بباطله من يملك بصراً وفؤاد فإن الناس تحكم دائماً
حسب ما تسمع وهذا ما يحدث دائماً في عرض قضية الإسلام والتوحيد في مقابل
قضايا الشرك والإلحاد كثيراً ما نجد وخاصة في أيامنا هذه أهل الباطل ألحن
بحجتهم وأكثر زخرفة لباطلهم بل وأكثر نشاطاً وحماساً ورغبة في نشره من أهل
الحق لحقهم، وهكذا وجد الإلحاد طريقه إلى النفوس والعقول، فالباطل لا يقنع
العقل، ولا يملأ الروح ولكن هالة الكلمات التي يتزخرف بها، وروعة الإخراج
التي يخطر بها يجعل الناس يرتمون في أحضانه ويتهافتون عليه.. هذا والإلحاد
إلى ذلك يهتك أستار المحرمات كلها فلا يبقى حراماً إلا ما لا تستطيع أن تصل
إليه، وإذا كان التوحيد يعد أهله بجنة بعد الموت فإن أهل الإلحاد ودعاته
يعدون من يتبعونهم في باطلهم بجنة على الأرض والنفوس الضعيفة تؤثر دائماً
العاجل على الآجل. هذا إلى فشل دعاة الإسلام كثيراً في بيان أن ما يحققه
الإسلام على الأرض من سلام واستقرار وسعادة هي الجنة الحقيقية المستطاعة على
هذه الأرض، وأن ما يدعو إليه الإلحاد من جنة الشهوات والأهواء ما هو إلا
الجحيم العاجل قبل الجحيم الآجل. ولكن كما قلنا آنفاً انحسرت عقيدة التوحيد
أمام ظلام الإلحاد لأن دعاة الحق لم يكونوا على مستوى الأحداث فيقابلون كل
شبهة للإلحاد بدليل من أدلة الحق..
ليس الدليل في كل وقت كلاماً:
ولا أعني بتاتاً أن يكون دليل الحق دائماً كلاماً بل الدليل قد يكون كلاماً
فعلاً فالإسلام والتوحيد نظام عملي وعبادي واعتقادي وإثبات الحق في الإسلام
لا يكون بمجرد الكلام فمن قال مثلاً أن الإسلام يعني التخلف ويحارب العلم
المادي كان الرد الطبيعي أن يمتلك المسلمون القوة وأن يتعلموا هذا العلم
المادي، وبذلك تبطل الشبهة، ومن قال أن الإسلام لا يصلح لحياة الناس كان الرد
الصحيح هو إقامة الإسلام العلمي الواقعي. وهكذا يصبح الحق حقاً والباطل
باطلاً.
باختصار يستحيل أن نعالج ظاهرة الإلحاد المعاصرة إلا إذا أقمنا دليلاً للرد
على كل شبهة وجعلنا العالم الواقعي هو الميدان لجهادنا وإثبات حقنا وأما إذا
أصبحت الكتب فقط والأوراق هي الميدان الذي نحارب من خلاله فإننا ولا شك نخسر
المعركة.
وهكذا يكون الرد على شبهات الإلحاد كلاماً في مقابل الكلام وعملاً في مقابل
الأعمال، فإذا أفرز الإلحاد انحرافاً ونجاسة وانحلالاً فيجب على التوحيد أن
يخلق طهراً وعفافاً واستقامة. وإذا كان الإلحاد يعني الظلم فإن التوحيد يعني
العدل ولن نفهم العدل إلا إذا كان واقعاً كما أننا لا نحس بالظلم إلا إذا كان
واقعاً. وإذا كان الإسلام كما نعتقد وهو كذلك هو الفلاح الحقيقي في الدنيا
ولا أقول صالحاً لحياة الناس فقط هذا الإسلام يجب أن يكون واقعاً مطبقاً وليس
قضية كلامية نصرخ بها هنا وهناك.
.. وهكذا إذا استطاع المسلمون أن يملكوا لكل شبهة جواباً وأن يكون الجواب كما
يرى الناس لا كما يسمعون فقط استطعنا حقاً أن نقضي على ظاهرة الإلحاد..
راجع
الإلحاد أسباب هذه الظاهرة وطرق علاجها