نظرات فى كتاب مراتب الجزاء يوم القيامة
مؤلف الكتاب هو أبوعبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي (المتوفى سنة 488)هـ
الكتاب ألف بناء على طلب من صديق فى موضوع مراتب الناس فى القيامة وفى هذا قال الحميدى فى المقدمة:
"قسم الله لك من الخير أكمله قسما، وأوفره نصيبا، وزادك من آلائه، وأوتر عليك من نعمائه، فإنك أشرت إلي فيما جرى في مجلس شيخنا أبي محمد ، يعني ابن حزم، أدام الله توفيقه من مسألة الموازنة، وتقسيم طباق أهلها، ورغبت أن أقيدها لك بدقتها، وأثبتها بحقائقها وكثرة أقسامها لنبوء أكثر الأفهام عنها دون تقييد ولا إثبات"
استهل الحميدى الكتاب بتقسيم الناس فى القيامة إلى مقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال كما ورد فى سورة الواقعة فقال:
"قد صح النص على ما نبين بعد هذا أن جميع ولد آدم (ص)عند الله تعالى على ثلاث طبقات: الأولى هم المقربون، وهم النبيون (ص)والشهداء فقط وهؤلاء ناهضة أرواحهم إلى الجنة إثر خروجها من أجسامهم عن هذا العالم الذي نحن فيه، وبرهان ذلك أنه لم يختلف مسلمان في أن الأنبياء (ص)الآن في الجنة، وكذلك الشهداء
وقد صح هذا بالنص وأخبر رسول الله (ص)أنه رأى الأنبياء (ص)في ليلة الإسراء به : «آدم في سماء الدنيا، ويحيى وعيسى عليهما السلام في الثانية، ويوسف (ص)في الثالثة، وإدريس (ص)في الرابعة، وهارون (ص)في الخامسة، وموسى وإبراهيم عليهما السلام في السادسة والسابعة»وبهذا قطعنا على أن السماوات هي الجنات ضرورة لصحة الإجماع على أن أرواحهم في الجنة من الآن، ومن المحال أن يكونوا في مكانين مختلفين في وقت واحدوكذلك جاء النص أيضا في الشهداء من طريق ابن مسعود وغيره، قال الله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم}
وإذا صح أن الشهداء في الجنة فمن المحال أن يكون أحد في أفضل مرتبة وأعلى محلة من الأنبياء (ص)، فصح أنهم متقدمون في هذه المنزلة ومستأهلون لها، لا يجوز غير ذلك"
الخطأ فى الفقرة هو القول أن المقربين الأنبياء(ص) والشهداء فقط وهو ما يخالف كونهم المجاهدون فى سبيل الله ومعهم أولى الضرر كما قال تعالى :
"لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة"
ثم تكلم عن النوعين الثانى والثالث فقال :
"والطبقة الثانية: أصحاب الشمال وهم الكفار يقينا بالنص، لقوله تعالى في سورة الواقعة: {وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ثم إنكم أيها الضالون المكذبون}
فنص تعالى على أنهم لا يؤمنون بالبعث وأنهم مكذبون، والمكذب كافر بلا تأويل وكذلك قال الله عز وجل في آخر السورة إذ ذكر التقسيم: {وأما إن كان من المكذبين الضالين}
وأيضا فإن الله تعالى خاطب الجميع فقال: {إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين}
وليس الكفار بيقين من السابقين المقربين، ولا هم بلا شك من أصحاب اليمين، وهم أصحاب الميمنة، فلم يبق إلا ما قلنا ضرورة وقال عز وجل أيضا: {ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة أولئك أصحاب الميمنة والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة}
وهذا نص جلي بما قلنا من أن الكفار هم أصحاب المشأمة، وهم أصحاب الشمال بنص القرآن
والطبقة الثالثة: هم أصحاب اليمين وهم أصحاب الميمنة، وهم جميع المؤمنين محسنهم ومسيئهم، حاشى من ذكرنا من الأنبياء والشهداء لما قدمنا قبل "
وقد كرر فى الفقرة نقس الخطأ وهو كون المقربين الأنبياء(ص) والشهداء فقط وآتانا بأمر غريب وهو أن من فى الجنة الآن هم فقط الأنبياء(ص) والشهداء فقال :
"وأيضا فإنه قد صح عنه (ص)أنه رأى عن يمين آدم وشماله (ذريته) ، وأن أهل السعادة عن يمين آدم (ص)والإجماع قد صح بما جاء به النص من أن من سوى الأنبياء والشهداء فليسوا الآن في الجنة، فلم يجز أن يخرج عن هذا الموضع الذي هو عن يمين آدم (ص)أحد، فيقال: إنه في الجنة من الآن إلا من جاء النص باستثنائه، وهم الأنبياء والشهداء فقط، وسائرهم هناك عن يمين آدم (ص)حيث رآهم رسول الله (ص) وهذه قسمة ضرورية
وإذ قد صح أن السابقين المقربين هم الشهداء بعد الأنبياء (ص) وأن أصحاب المشأمة هم الكفار، فلم تبق إلا الطبقة الثالثة فهي لهم بيقين
ومن البرهان أيضا على ما قلناه أن الله تعالى رتبهم على ثلاث طبقات: السابقون المقربون في جنات النعيم، وأصحاب اليمين، وأصحاب المشأمة
فلو كان أصحاب اليمين في الجنة بدءا من الآن لكانوا طبقتين فقط، وكذلك لو كان الأنبياء والشهداء مع سائر المؤمنين في محلهم حيث هم الآن لكانوا طبقتين أيضا، ولكانت الثالثة ساقطة، وهذا باطل فصح ما قلناه من الفرق بين المقربين وبين أصحاب اليمين، وتناظرت النصوص كلها، وتبين أن أصحاب اليمين وإن كانوا قد ذكر الله أنهم: { في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وفرش مرفوعة إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين} فإنما هذا بنص الآية على ما يصيرون إليه بعد الحساب يوم القيامة بلا شك لما ذكرنا
يؤيد هذا قول الله عز وجل في آخر السورة نفسها: {فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم إن هذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم}
فنص تعالى على أن هذه حالهم وقسمهم فجعلهم أيضا ثلاث طبقات:
أولها: المقربون المعجل لهم الجنة والنعيم
وثانيها: أصحاب اليمين الذين لهم السلام معجلا فقط
وثالثها: المكذبون الضالون، وهذا بين"
الخطا الذى تكرر فى الفقرة السابقة هو أن اصحاب اليمين ليسوا فى الجنة حاليا وهو ما يخالف النص التالى:
"كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين فى جنات "
كما يخالف أن كل من يموت من المسلمين أى كل من تتوفاهم الملائكة يدخلون الجنة كما قال تعالى :
"الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون"
ثم تناول الرجل مسألة أن بعض المؤمنين يدخلون النار وسخرجون منها للجنة فقال :
"ثم قد صح بالنص والإجماع أن الكفار مخلدون في النار غير خارجين منها أبدا بعد دخولهم فيها يوم القيامة، وصحت أيضا بنص القرآن الموازنة، وأنه لا يجزى أحد إلا بما كسب، وصح عن النبي (ص)أنه ذكر من يخرج من النار على مراتب، وأنه يقدم من في قلبه مثقال شعيرة، ثم مثقال برة، ثم مثقال كذا، على حسب ما ذكر من المقادير مع قول لا إله إلا الله، فلم يبق إلا أنهم المؤمنون المسيئون بيقين لاشك فيه
ونحن ذاكرون نص الحديث، إذ الغرض تبين ما فيه من المقادير، وليكون أقرب لفهم ما تعلق من هذه المسألة به، لكونه حاضرا معها متصلا بها، إن شاء الله فنقول، وبالله تعالى التوفيق:
إنه قد روى الثقتان: سعيد بن أبى عروبة وهشام صاحب الدستوائي كلاهما عن قتادة عن أنس بن مالك أن النبي (ص)قال: «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة»
هذا نص الحديث رويناه من طريق مسلم بن الحجاج في الصحيح، ورويناه من طريق حماد بن زيد عن معبد بن هلال العنزي قال: انطلقنا إلى أنس بن مالك وتشفعنا بثابت فانتهينا إليه، وهو يصلي الضحى فاستأذن لنا ثابت فدخلنا عليه فأجلس ثابتا معه على سريره فقال له: يا أبا حمزة إن إخوانك من أهل البصرة يسألونك أن تحدثهم حديث الشفاعة فقال: حدثنا محمد رسول الله (ص)قال: «إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض فيأتون آدم فيقولون له اشفع لنا إلى ربك فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم، فإنه خليل الله»
وذكر الحديث إلى قوله (ص): فأقول: «(رب) أمتي أمتي، فيقال: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع فأقول: أمتي أمتي، فيقال لي: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها، فأنطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال لي: انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل»ثم قال: إنهم خرجوا من عند أنس فأتوا الحسن بن أبي الحسن البصري فزادهم في هذا الحديث: إن أنسا حدثهم به عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: «ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول: يا رب إيذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، قال: ليس ذلك لك، أو قال ليس ذلك إليك، ولكن وعزتي وكبريائي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله»، وذكر باقي الخبر
وقد جاء من طريق ثابتة مجيء التواتر
ففي هذا بيان المقادير التي جعلها الله تعالى سببا لخروجهم من النار بالشفاعة على حسب مآلهم منها تفضلا من الله عز وجل، إذ جعل ما اكتسبوا من الخير وعملوه مما قد كان الله تعالى هو الموفق له، والمعين عليه، والمهيئ لآلات الاكتساب له، سبيلا إلى الفوز والنجاة، تغمدا منه برحمته لهم، كما شاء لا إله إلا هو
وفيه أن تلك المقادير المذكورة من مثقال برة وذرة إنما هي مما سوى الإيمان، الذي هو قول لا إله إلا الله، لكن من سائر الأعمال التي تسمى إيمانا أيضا، لقوله تعالى فيمن قال لا إله إلا الله، وليس له غيرها: «ليس ذلك لك»وأبانهم عن أهل تلك المقادير لتوحده عز وجل بإخراجهم من النار
وهذا بين والحمد لله
وهذا أيضا يبين أن الذي توحد الله عز وجل بإخراجهم من النار فيمن قال لا إله إلا الله، ولم يعمل خيرا قط، إنما هو من قالها مرة واحدة فقط مصدقا ومات على ذلك، لأن قول لا إله إلا الله حسنة، فإذا كررها حصلت له حسنة أخرى، فهو أزيد خيرا ممن لم يقلها إلا مرة واحدة فقط
ونص الخبر يدل على أن الذين توحد الله تعالى بإخراجهم برحمته لا بالشفاعة إنما هم من ليس في المؤمنين أحد أقل خيرا منهم،
هذا نص الخبر المذكور وغيره من الآثار الثابتة عن رسول الله (ص) الواردة في هذا الباب"
والرجل هنا يفترى على الله عندما يقول أنه صح دخول بعض المؤمنين النار بالنص لأنه لا توجد آية واحدة فى القرآن تقول هذا الكلام والغريب أن من اعتبروهم مؤمنين وهم ليسوا كذلك وهم الفسقة النص فيهم أنهم مخلدون فى النار كلما ارادوا الخروج أعيدوا للنار وفى هذا قال تعالى :
"وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذى كنتم به تكذبون"
ولا يوجد ما قاله الرجل من وجود المؤمنين المسيئين لأن الله تعهد لما أساء من المسلمين بالغفران طالما تابوا من إساءتهم فقال :
"وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وأخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم"
والغفران هو العفو عن العقاب وقال ايضا:
"إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما"
فتكفير السيئات وهو العفو عن عقاب المؤمنين لكل المؤمنين بلا تحديد كما فى قوله تعالى :
"والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذى كانوا يعملون"
كما ان حديث الشفاعة وما يلحقه فيه تناقضات كثيرة لا يمكن الجمع بينها وفى بعض رواياته خطأ حسابى لا يمكن أن يقع فى الوحى ومن تلك التناقضات:
أولها عدد سجودات النبى(ص) الله ففى الرواية الأولى"فإذا أنا رأيته وقعت ساجدا 000 ثم أعود فأقع ساجدا 000 "أى مرتين وفى خلفها قالوا "ثم آتيه الرابعة أو أعود الرابعة "وقطعا مرتين غير أربعة وثانيها أوزان الخير ففى رواية "ما يزن شعيرة 00 ما يزن برة 00 ما يزن ذرة "وفى رواية "حبة من برة أو شعيرة 00 حبة من خردل 00 فمن كان فى قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل "وقطعا هناك اتفاق بين الشعيرة والبرة وهناك تناقض بين الذرة وحبة الخردل وما هو أدنى أدنى أدنى منها وثالثها أكل النبى (ص)ففى رواية "أتى رسول الله يوما بلحم فرفع إليه الذراع "وفى رواية "وضعت بين يدى رسول الله قصعة من ثريد ولحم فتناول الذراع "فهنا الأكل لحم فقط وفى الثانية ثريد ولحم وهو تناقض وفى الأول رفع الذراع للنبى (ص)من الأخرين بينما فى الثانية هو من رفعه بنفسه ورابعها ما بين مصرعى الجنة ففى رواية "او كما بين مكة وبصرى "وفى نفس الرواية وما بعدها "هجر ومكة "والمسافة بين مكة وهجر غير المسافة بين مكة وبصرى وخامسها الأنبياء الذين ذهب الناس لهم ففى الرواية آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وفى رواية آدم وإبراهيم وموسى وعيسى وهو تناقض حيث نوح غير موجود فى الثانية
ثم آتانا الرجل بكلام خاطىء قال فيه:
"ثم إنا وجدنا أصحاب اليمين من جميع المؤمنين، وهم الطبقة الثانية من الطبقات التي ذكرنا أيضا ينقسمون في الموازنة أقساما ثلاثة:
- إما متساو خيره وشره
- وإما من رجحت حسناته على سيئاته، فهذا فائز بنص القرآن
- وإما من رجحت سيئاته مع ما معه من الكبائر على حسناته
وفيه: فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون, ولم يبق إلا أرحم الراحمين, فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما هذا لفظ مسلم (183) عن أبي سعيد
فهذا يقتص منه بما فضل من معاصيه على حسناته من لفحة إلى آخر من يخرج من النار، على ما صح عن النبي (ص)بمقدار قلة شره وكثرته، وقال تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات}
وقد صح أن أهل الأعراف من أحد هذه الأقسام، إذ ليس لها رابع، وليسوا بلا شك من الطبقتين اللتين ذكرنا آخرا فوجب أنهم الطبقة التي ذكرنا أولا، فإنه لم يبق غيرهم، وهذه قسمة ضرورية
ثم رجعنا إلى المؤمنين الذين وجب الاقتصاص منهم بالنار بزيادة شرهم على خيرهم فوجدناهم ينقسون فيما لهم من الخير والشر على أقسام أربعة، ثم تتشعب هذه الأربعة الأقسام على اثني عشر قسما:
فالأربعة الأول: كثير الخير كثير الشر، كثير الخير قليل الشر، قليل الخير قليل الشر، قليل الخير كثير الشر
إلا أن أهل هذه التقسيمات كلهم قد فاض شرهم وما معهم من الكبائر على خيرهم، وهؤلاء يحتسب لهم بكلية ما مع كل امرئ منهم من الخير وبكلية ما معه من الشر، إذ لكل ذلك حظ من المراعاة والحساب، فإذا اقتص منه فيما فضل له من الشر حتى يفضل له من الخير شيء مالا أقل منه، وهو التصديق بالإسلام والنطق بذلك مرة واحدة، وقع الخروج حينئذ من النار بالشفاعة التي رحم الله تعالى بها عباده المؤمنين المسرفين على أنفسهم
وقد علمنا أن من عمل من كل أعمال الخير فرضها وتطوعها ثم قتل النفس وعمل من كل الكبائر، فإنه بالإضافة إلى من لم يعمل شيئا من الخير وشارك في الكبائر مشاركة المذكور قبله سواء سواء، أخف عذابا، وأقل في النار مكثا، على ما أوجبته النصوص المذكورة
وهكذا الحكم في قلة الشر وكثرته مع قلة الخير أو كثرته فلنتكلم الآن بعون الله تعالى وعصمته في كثير الخير كثير الشر مع قليل الشر كثير الخير بالإضافة إليه فوجدناهما قد استويا في كثرة الخير، واختلفا في كمية الشر، نعني في قلته وكثرته"
كما خالف النص القرآنى فى أن الحسنة الواحدة تزيل كل السيئات طالما كانت بعدها كما قال تعالى " إن الحسنات يذهبن السيئات" وهو ما فسرته المقولة المأثورة :
"الإسلام يجب ما قبله"
وهذا التقسيم لا دليل عليه من القرآن ولا حتى من الروايات المنسوبة للنبى(ص) وهو كلام لو طبقناه لدخل العديد من الأنبياء(ص) النار وأولهم موسى(ص) لأنه ارتكب كبيرة القتل ولدخل يونس(ص) النار أيضا لأنه ارتكب كبيرة أنه ظن أن الله لن يقدر عليه ولدخل إبراهيم(ص) النار لأنه طلب من النجوم أن تشفيه من سقمه حسب ظاهر النص
كما ان التقسيم الخاطىء خالف القرآن فى العديد من الأمور:
الأول وجود تساوى للحسنات والسيئات وهو ما يخالف أن المذكور خفة وثقل فقط ولا توجد حالة التساوى المزعومة كما قال تعالى "فأما من ثقلت موازينه فهو فى عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاويه وما أدراك ما هيه نار حامية"
فالثقل والخفة لا يتعلق بعدد سيئات أو حسنات وإنما يتعلق بأمرين إسلام وكفر فمن جاء بالإسلام ثقلت موازينه أى قبل عمله ومن جاء بأى دين من اديان الكفر لا يقبل عمله كما قال تعالى " "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الأخرة من الخاسرين"
وعاد الحميدى لقول النفس التخريف وهو دخول بعض المؤمنين النار وخروجهم منها للجنة ناسبا قول هذا للنبى(ص) الذى لم يقل شىء فقال:
"وقد علمنا بتقسيم رسول الله (ص)في خبره الصادق من خروج من له مقدار الشعيرة من الخير معا، ثم خروج من له مقدار البرة من الخير معا، ثم كذلك سائر المقادير في القلة، أن الخروج من النار لأهل كل مقدار منها، يكون معا بلا شك في ذلك
وعلمنا بالنص أنهم معاقبون ومقتص منهم فيما كسبوا من الشر فلم يبق إلا أن الكثير الشر مقدم في الدخول في النار على القليل الشر بمقدار ما زاد شره على شر الآخر، ليكون خروجهما معا بعد أن يقتص من كل واحد منهما بمقدار ما فضل له من الشر على ما معه من الخير
وليس في الممكن أن يكون دخولهما في النار معا بلا شك، إذ لا شك في أنه كان يتم الاقتصاص من الأقل شرا قبل تمامه من الأكثر شرا فيخرج من النار قبل خروج من له من الخير كالذي له سواء سواء، وهذا خلاف نص الحديث اللهم إلا أن يكون وجه آخر وهو أن يزاد في كيفية عذاب من هو أكثر شرا، ويفتر من عذاب من هو أقل شرا، فيكونا قد اتفقا في مدة العذاب واختلفا في شدته وتهوينه، فهذا أيضا ممكن، والله أعلم بأيهما يكون إلا أنه لابد من أحد الوجهين، إذ ما عداهما مخالف لوحي الله تعالى إلى رسوله (ص) وما خالف الوحي فهو باطل بلا شك
ثم نظرنا في قليل الخير قليل الشر مع قليل الخير كثير الشر فوجدناهما قد استويا في قلة الخير واختلفا في كمية الشر، نعني في قلته وكثرته فصح خروجهما من النار معا ولابد، إذ مقدار خيريهما واحد
فإذ ذلك كذلك فلا بد من تقديم كثير الشر في دخول النار، إذ مقدار الاقتصاص منه أكثر من مقدار الاقتصاص من الذي هو أقل شرا منه فيقدم عليه بمقدار ما يقتص منه من الزيادة التي تزيد على شر الآخر ضرورة، ثم يدخل الآخر ليكون خروجهما (من النار) معا
والوجه الآخر كما قدمناه وهو أن يدخلا النار معا فيزاد في عذاب الأكثر شرا، ويفتر عذاب الأقل شرا، فيتفقان في المدة ويختلفان في شدة العذاب وتهوينه، والله أعلم ثم نظرنا في كثير الخير كثير الشر مع قليل الشر قليل الخير، فوجدناهما قد اختلفا في كمية الشر وكمية الخير، وقد علمنا أن الأكثر خيرا أسرع خروجا من النار، وأن الأكثر شرا أكثر عقوبة، فصح أن الأكثر شرا يقدم بيقين في الدخول في النار قبل الأقل منه شرا، وأنه أيضا وإن تقدم في دخول النار، فإنه المقدم في الخروج منها قبل الآخر، لأنه أكثر منه خيرا
وأن القليل الشر وإن تأخر في دخول النار بعد الذي هو أكثر منه شرا، فإنه أيضا يتأخر في الخروج منها بعده، لأنه أقل منه خيرا
أو وجه آخر، وهو: أن يدخلا النار معا ويزاد في عذاب الأكثر شرا ليستوفى القصاص منه في قليل المدة فيخرج قبل الذي هو أقل خيرا منه ولابد، ويفتر في عذاب الأقل شرا، وتطول مدته، فيكون خروجه منها ولابد مع طبقته، وبعد خروج من هو أكثر خيرا منه، هذا ما لا يمكن سواه أصلا
ثم نظرنا في كثير الخير قليل الشر مع قليل الخير كثير الشر فوجدناهما قد اختلفا في قلة الخير وكثرته، وفي قلة الشر وكثرته، فعلمنا يقينا أن الأكثر شرا يدخل النار قبل الأقل شرا، وأنه أيضا يخرج منها بعده لقلة خيره عن خير الآخر
والوجه الآخر، وهو: أن يدخلا معا في النار فيتم القصاص من القليل الشر قبل تمام القصاص من الأكثر منه شرا، فيخرج الأكثر خيرا قبل خروج الأقل خيرا ولابد
ثم نظرنا في كثير الخير كثير الشر مع قليل الخير كثير الشر فوجدناهما متفقين في كثرة الشر مختلفين في قلة الخير وكثرته، فالأكثر خيرا مقدم في دخول النار على القليل الخير، ليتم القصاص منه قبل تمام القصاص من الآخر، ويخرج من النار لكثرة خيره قبل خروج الأقل خيرا ولابد
والوجه الآخر، وهو: أن يدخلا النار معا ويزاد في عذاب الأكثر خيرا ويهون على الآخر، ليتم القصاص من الأكثر خيرا قبل تمام القصاص من الآخر، ليخرج قبله ولابد لكثرة خيره عليه
ثم نظرنا في قليل الخير قليل الشر مع كثير الخير قليل الشر فوجدناهما قد اتفقا في قلة الشر، واختلفا في قلة الخير وكثرته، فالأكثر خيرا يقدم في الدخول في النار وفي الخروج منها
والوجه الآخر، وهو: دخولهما معا ويزاد ولابد في عذاب الأكثر خيرا ليتم القصاص منه، ويخرج ولابد قبل خروج الذي هو أقل خيرا منه
فحصل من كل هذا أنه جائز أن يدخل الأكثر شرا في النار قبل دخول الأقل شرا، إن استوى عذابهما، فإن أدخلا معا فلا بد من مضاعفة العذاب للأكثر شرا، ليخرج مع من معه من الخير كالذي معه، أو ليخرج قبل الذي هو أقل خيرا منه أو بعد الذي هو أكثر خيرا منه ولا بد، إنما يراعى في الخروج من النار كثرة الخير وقلته فقط، كما جاء النص
ويراعى في الشر القصاص فقط إما بطول المدة وإما بمضاعفة العذاب ولا بد، كما جاء النص أيضا بقوله تعالى: {اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم}
إلا أنا تأملنا قول الله تعالى: {ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون}
فوجدنا فيه دليلا على صحة الوجه الأول فقط، وأن الأكثر معاصي يتقدم في النار على طبقة أقل معاصي منه"
شرح الرجل فى الفقرات السابقة احتمالات توزيع العقاب على المؤمنين وانتهى إلى ان الاحتمال الأول الذى قاله هو الصحيح وهو" فلم يبق إلا أن الكثير الشر مقدم في الدخول في النار على القليل الشر بمقدار ما زاد شره على شر الآخر، ليكون خروجهما معا بعد أن يقتص من كل واحد منهما بمقدار ما فضل له من الشر على ما معه من الخير"
وهو كلام خاطىء كما سبق أن قلنا أنه طبقا لنصوص القرآن لا يدخل أى مؤمن النار وأما كون كثير الشر مقدم على قليل الشر فيخالف أن الناس يدخلون الناس زمر أى جماعات كما قال تعالى "وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا" كما يخالف ما سبق أن قلناه عفو الله عن سيئات المؤمنين كما قال "وهو الذى يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون"
فالعفو مانع لأى عقاب على السيئات
ثم عاد لنفس التخريف وهو تقسيم المؤمنين لأربع فقال :
ثم نقول: إن أهل الموازين على أربعة أقسام:
فقسم رجحت حسناتهم، وهؤلاء صنفان في كمية الرجحان ومائيته:
1 - إما صنف فضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة فقط، وهم طبقة واحدة
2 - وإما صنف فضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة وزيادة خير، وهؤلاء مختلفون باختلاف الفاضل لهم
وكلا هذين الصنفين في الجنة إثر الموازنة بلا فصل إلا جواز الصراط
والقسم الثاني: من استوت حسناته وسيئاته مع ما معه من الكبائر فلم يفضل لهم خير ولا شر، وهؤلاء أصحاب الأعراف ولا بد من مجازاتهم كما رتب الباري عز وجل على شيء من سيئاتهم حتى يفضل لهم بعد سقوط ذلك بالجزاء عليه التصديق والنطق به مرة واحدة فقط، وهي الوقوف بين الجنة والنار، إذ لا يدخل الجنة أحد إلا بإيمان، كما جاءت النصوص، وهؤلاء طبقة واحدة
والقسم الثالث: من رجحت سيئاته وما معه من الكبائر على حسناته، وفي جملتها التصديق، فهؤلاء معاقبون على الفاضل لهم من الشر على ما قابل حسناتهم وإيمانهم من شرهم، حتى يفضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة الذي لا يدخل أحد الجنة إلا به وهؤلاء مختلفون في التقدم في دخول النار وفي الخروج منها، وفي شدة العذاب وخفته اختلافا شديدا على ما بيناه قبل ومن جملة هؤلاء: هو من لم يعمل خيرا قط غير الإسلام اعتقاده والقول به مرة واحدة فقط فهؤلاء يعاقبون على كل ما سلف لهم حتى يفضل لهم عقد الإيمان والنطق به مرة واحدة وهؤلاء أيضا مختلفون في التقدم في دخول النار وفي التأخر في ذلك، وفي شدة العذاب وتهوينه على مقدار ما لكل واحد من المعاصي إلا أنهم كلهم مستوون في درجاتهم في الجنة مع أصحاب الأعراف، ومع الصنف الذين فضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة فقط، سواء في كل ذلك من تقدم دخوله الجنة من كل من ذكرنا ومن تأخر دخوله فيها، كلهم ليس لهم عمل خير فاضل على شر أصلا إلا العقد والنطق بذلك مرة واحدة قال رسول الله (ص)«لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة» "
ولا جزاء إلا على عمل برحمة الله تعالى، قال الله عز وجل: {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} ، وقال تعالى: {جزاء بما كانوا يعملون} وإنما يتفاضلون بالمسابقة إلى الجنة أو بالخلاص من النار، أو بقلة المكث فيها، أو بتهوين العذاب على بعض دون بعض، ثم يتفاضل من فضل له على سيئاته عمل قل أو كثر من الخير على حسب ما عمل من الخير في الجنة بعلو الدرجات وكثرة النعيم
والقسم الرابع: الكفار ولا بد لهم من الموازنة وقد نص الله تعالى على ذلك في سورة قد أفلح المؤمنين في قوله تعالى: {ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون}
فصح بهذه الآية أن الكفار أيضا يوازنون، وأن موازينهم تخف لا يجوز غير هذا، لأن من خالف هذا كان ذلك منه صرفا للآية عن ظاهرها وعن مقتضى لفظها بالدعوى، وتحريفا للكلم عن مواضعه بلا برهان، وهذا لا يجوز"
وما قاله تكرار للأخطاء السابقة عدا خطأ تكرر فيها وفى فقرات سابقة وهو دخول أهل الأعراف النار وهو يخالف أنهم لا يدخلون النار كما قال تعالى :
"وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون"فهنا أمرهم الله بدخول الجنة ولم يدخلهم النار ولا يوجد فى الايات كلها جملة تدل على هذا الخبل
وقد بين الحميدى أنه لا تعارض بين آيات الموازين وبين قول الله فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا فقال :
"وأما قوله عز وجل: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا} فليس نفيا للموازنة، لأن كلام الله لا يتعارض، وإنما هو أنه لا تثقل موازينهم بل تخف، إذ ليس فيها التصديق الذي هو العقد والقول الذي لا يصح عمل صالح إلا به، إلا أنهم يختلفون في مقدار المعاصي، وفي كيفية العذاب في شدته ونقصانه على حسب معاصيهم، وهم مخلدون في النار أبدا، ولا يجازون بما لم يعملوا ولا كانوا سببا لعمله، ففي هذا يتفاضلون في العذاب
وقد بين الله عز وجل بقوله: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار}
والأسفل بلا شك من باب الإضافة، ويقتضي ولا بد أعلى منه في نوعه وأخبر رسول الله (ص)بما خفف عن أبي طالب بأنه لم يؤذ قط رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأما أعمالهم الصالحة فمحبطة بنص القرآن لا يجازون عليها في الآخرة أصلا قال الله تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} "
القول بتخفيف العذاب عن أبى طالب يتعارض مع أن العذاب مضاعف للكفار كما قال تعالى :
"قال ادخلوا فى أمم من قبلكم من الجن والإنس فى النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فأتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون"
ثم قال مقسما الناس لست طبقات منهم خمس لأهل الجنة وقد سبق أن قسمهم مرتين لأربعة فيما سبق فقال:
"ولابد من الموازنة لكل أحد من الأنبياء والرسل والمؤمنين التائبين والمصرين والكفار، وليس الغفران للأنبياء (ص)والتائبين من المؤمنين بمانع من الموازنة لهم لأنهم بلا شك متفاضلون في الأعمال الصالحة وفي الفضائل
والموازنة إنما هي توقيف لهم على ما جعله الله تعالى جزاء لهم على تلك الأعمال الفاضلة، فيعلم كل امرئ منهم ما يستحق في الجنة من الجزاء على أعماله الصالحة، ويعلم أهل النار أيضا مقدار ما يستحقه كل امرئ منهم في النار من الجزاء على أعماله الخبيثة مع كفره فقط
فهم كما أوردنا ست طبقات:
أهل النار المخلدون فيها، وهم الكفار وهم المشركون طبقة يتفاضلون في العذاب بمقدار ما عمل كل امرئ منهم من الشر
ثم أهل الجنة خمس طبقات:
الأولى: من ثقلت موازينه فرجحت حسناته على معاصيه بما قل أو كثر، فهؤلاء يتفاضلون في درجات الجنة والعلو فيها، وفي كثرة النعيم بمقدار ما فضل لكل واحد منهم من الأعمال الصالحة
وهؤلاء خمس طبقات على ما نبين بعد هذا
ثم أربع طبقات كلهم في الجنة سواء في الدرجات وفي النعيم، لا فضل لأحد منهم على سائرهم في شيء من ذلك، ولكل امرئ منهم مثل الدنيا وما فيها عشر مرات، كما صح عن النبي (ص)من طريق أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -
وهم من فضل لهم التصديق بالإسلام والنطق به مرة واحدة على ما معه من المعاصي، ومن لم يفضل له شيء بأن استوت حسناته وسيئاته فوقفوا بين الجنة والنار حتى فضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة، وهم أهل الأعراف
وهاتان الطبقتان لا تعذبان بالنار أصلا، ومن فضلت له معصية على كل ما معه من الخير، ومن لم يعمل خيرا قط غير التصديق بالإسلام والنطق به مرة واحدة فقط
وهاتان الطبقتان هما المجازاتان بالنار:
إحداهما على ما فضل لها من المعاصي على ما كان لها من خير
وهي الخارجة من النار بالشفاعة المتقدمة في الخروج على مقدار تفاضلها فيما عملت من الخير الذي قد سقط تفضيله بمقابلة معاصيهم له
والثانية: على ما عملت من الشر، وهي الخارجة من النار برحمة الله تعالى لا بالشفاعة، وهي آخر من يخرج من النار
وكل هذه الطباق الأربع لم يفضل لها شيء غير التصديق بدين الإسلام والنطق به مرة واحدة فقط
فتبارك الله الذي كل أحكامه عدل وقسط لا إله إلا هو المتفضل مع ذلك بما لا يبلغه فهم ولا وصف ولا شكر
نسأل الله أن يجيرنا من النار ومن روعات يوم القيامة بمنه، آمين، وأن ييسرنا لأعمال الطاعة المنجية من كل ذلك، آمين
والطبقة التي فضلت لها أعمال خير تتفاضل بها درجاتهم في الجنة هم أيضا طبقات خمس:
فأولها بعد النبيين عليهم السلام: من أدى جميع الفرائض، وتطوع بخير كثير مع ذلك، واجتنب جميع الكبائر، وقلل من جميع السيئات
إذ لا سبيل إلى أن ينجو أحد من السيئات أو من الهم بها، كما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ قال: «ولا يحيى بن زكريا»
ثم الثانية: من أدى جميع الفرائض، ولم يتطوع بزيادة خير، واجتنب جميع الكبائر، واستكثر مما دون ذلك من السيئات أو استقل
ثم الثالثة: من أدى الفرائض، واجتنب الكبائر، وعمل تطوعا وسيئات
ثم الرابعة: من أدى الفرائض وتطوع أو لم يتطوع، وعمل كبائر وسيئات، ثم تاب من بعد ذلك قبل الموت، أو أقيم عليه الحدود فيما عمل من ذلك
ثم الخامسة: من أدى الفرائض وقصر في بعضها، وتطوع، وعمل كبائر وسيئات ومات مصرا، إلا أن خيره رجح في الميزان على معاصيه، ولو بتكبيرة أو بحسنة هم بها ولم يعملها أو شوكة أزالها من الطريق، أو غير ذلك من مقدار الذرة فصاعدا
كل هذا مسطور في نصوص القرآن والمسند الثابت عن رسول الله (ص) ومعلوم انقسام الناس بضرورة المشاهدة"
الغريب فى كلام الرجل عن التقسيم الخماسى او السداسى هو أنه ينسب هذا لنصوص القرآن مع أنه ذكر فى بداية الكتاب أن الله قسم الناس ثلاث أنواع المقربون وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال وهو ما ذكره فى نصوص أخرى وهى نص المجاهدين والقاعدين وهم المسلمون فى الجنة بالاضافة للكفار وهو قوله تعالى "لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة"
فإن قال قائل: فإذ الأمر هكذا، فما فائدة الشفاعة إذا؟ والجزاء واقع على كل دقيق وجليل من خير وشر لم يتب عنه فاعله
قلنا وبالله تعالى التوفيق: وقوع الجزاء على ما ذكرنا من مراتبه هو فائدة الشفاعة بنص بيان رسول الله (ص)بذلك في الخبر الذي أوردنا قبل
ولولا تفضل الله تعالى بالشفاعة وقبولها لكان له عز وجل أن يخلدنا على سيئة واحدة في النار، ولولا رحمته بأن جعل الجنة جزاء لنا على قليل طاعتنا وعملنا، كما قال تعالى: {ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون} لكان له عز وجل أن لا يدخلنا الجنة
إذ ليس لأحد عليه تعالى حجة ولا حق، بل له المن على الجميع لا إله إلا هو وصح بهذا معنى قول رسول الله (ص)«إنه لا ينجي أحدا عمله، فقيل له: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» أو كما قال (ص)
فإن قيل: فقد يجازون بما فضل لهم من الشر على ما مع كل امرئ منهم من الخير، ويسقط لكل واحد منهم مما عمل من المعاصي ما قابل ما معه من الخير، فلا شك في أنه قد سقط كل خير عمل من تصديق ومن سائر الأعمال، كما سقط ما قابل ذلك الخير من معاصيه، فكيف تراعى له المقادير المذكورة من مثقال برة وشعيرة وخردلة وغير ذلك؟
قلنا وبالله تعالى التوفيق: إنه بقي له أنه قد عمل خيرا فتفضل الله عز وجل عليهم بأن جعلهم عملوا خيرا، وبأنهم تفاضلوا فيما عملوا من الخير سببا إلى قبول الشفاعة فيهم، وإلى تقدمهم في إخراجهم من النار على مراتب ما كان لكل واحد منهم من عمل الخير جملة فقط، وأخر تعالى من لم يعمل خيرا قط غير التصديق بدين الإسلام والنطق به مرة فقط، فلم يجعل له حظا في الشفاعة ولا في التقدم في الخروج من النار، وتوحد هو عز وجل بإخراجه من النار بعد كل من يخرج منها
كل ما ذكرنا فهو منطو بجملته في الحديث الذي صدرنا به وخارج منه نصا، وهذه جوامع الكلم التي أوتيها (ص)، وهي اقتضاء الكلام القليل للمعاني الكثيرة"
والخطأ فى الفقرة هو ارتباط الشفاعة بما قاله الرجل من المراتب وهو تخريف ظاهر فالشفاعة فهمها الناس خطأ فهى مجردة شهادة على ما حدث من إسلام أو كفر كما قال تعالى "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا"
والله أساسا مستغنى عن الشهادة لأنه عالم بكل شىء وكل شىء عمله الناس مسجل صوت وصورة ومن ثم الشهادة لا تؤثر فى حكم الله لأن الحكم له وحده ولذا ربطها للمسلمين بقوله "ولا يشفعون إلا لمن ارتضى"
فالشفاعة لمن رضى الله عنه وطالما الله رضى عنه فقد حكم بدخوله الجنة من قبل الشفاعة
مؤلف الكتاب هو أبوعبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي (المتوفى سنة 488)هـ
الكتاب ألف بناء على طلب من صديق فى موضوع مراتب الناس فى القيامة وفى هذا قال الحميدى فى المقدمة:
"قسم الله لك من الخير أكمله قسما، وأوفره نصيبا، وزادك من آلائه، وأوتر عليك من نعمائه، فإنك أشرت إلي فيما جرى في مجلس شيخنا أبي محمد ، يعني ابن حزم، أدام الله توفيقه من مسألة الموازنة، وتقسيم طباق أهلها، ورغبت أن أقيدها لك بدقتها، وأثبتها بحقائقها وكثرة أقسامها لنبوء أكثر الأفهام عنها دون تقييد ولا إثبات"
استهل الحميدى الكتاب بتقسيم الناس فى القيامة إلى مقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال كما ورد فى سورة الواقعة فقال:
"قد صح النص على ما نبين بعد هذا أن جميع ولد آدم (ص)عند الله تعالى على ثلاث طبقات: الأولى هم المقربون، وهم النبيون (ص)والشهداء فقط وهؤلاء ناهضة أرواحهم إلى الجنة إثر خروجها من أجسامهم عن هذا العالم الذي نحن فيه، وبرهان ذلك أنه لم يختلف مسلمان في أن الأنبياء (ص)الآن في الجنة، وكذلك الشهداء
وقد صح هذا بالنص وأخبر رسول الله (ص)أنه رأى الأنبياء (ص)في ليلة الإسراء به : «آدم في سماء الدنيا، ويحيى وعيسى عليهما السلام في الثانية، ويوسف (ص)في الثالثة، وإدريس (ص)في الرابعة، وهارون (ص)في الخامسة، وموسى وإبراهيم عليهما السلام في السادسة والسابعة»وبهذا قطعنا على أن السماوات هي الجنات ضرورة لصحة الإجماع على أن أرواحهم في الجنة من الآن، ومن المحال أن يكونوا في مكانين مختلفين في وقت واحدوكذلك جاء النص أيضا في الشهداء من طريق ابن مسعود وغيره، قال الله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم}
وإذا صح أن الشهداء في الجنة فمن المحال أن يكون أحد في أفضل مرتبة وأعلى محلة من الأنبياء (ص)، فصح أنهم متقدمون في هذه المنزلة ومستأهلون لها، لا يجوز غير ذلك"
الخطأ فى الفقرة هو القول أن المقربين الأنبياء(ص) والشهداء فقط وهو ما يخالف كونهم المجاهدون فى سبيل الله ومعهم أولى الضرر كما قال تعالى :
"لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة"
ثم تكلم عن النوعين الثانى والثالث فقال :
"والطبقة الثانية: أصحاب الشمال وهم الكفار يقينا بالنص، لقوله تعالى في سورة الواقعة: {وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ثم إنكم أيها الضالون المكذبون}
فنص تعالى على أنهم لا يؤمنون بالبعث وأنهم مكذبون، والمكذب كافر بلا تأويل وكذلك قال الله عز وجل في آخر السورة إذ ذكر التقسيم: {وأما إن كان من المكذبين الضالين}
وأيضا فإن الله تعالى خاطب الجميع فقال: {إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين}
وليس الكفار بيقين من السابقين المقربين، ولا هم بلا شك من أصحاب اليمين، وهم أصحاب الميمنة، فلم يبق إلا ما قلنا ضرورة وقال عز وجل أيضا: {ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة أولئك أصحاب الميمنة والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة}
وهذا نص جلي بما قلنا من أن الكفار هم أصحاب المشأمة، وهم أصحاب الشمال بنص القرآن
والطبقة الثالثة: هم أصحاب اليمين وهم أصحاب الميمنة، وهم جميع المؤمنين محسنهم ومسيئهم، حاشى من ذكرنا من الأنبياء والشهداء لما قدمنا قبل "
وقد كرر فى الفقرة نقس الخطأ وهو كون المقربين الأنبياء(ص) والشهداء فقط وآتانا بأمر غريب وهو أن من فى الجنة الآن هم فقط الأنبياء(ص) والشهداء فقال :
"وأيضا فإنه قد صح عنه (ص)أنه رأى عن يمين آدم وشماله (ذريته) ، وأن أهل السعادة عن يمين آدم (ص)والإجماع قد صح بما جاء به النص من أن من سوى الأنبياء والشهداء فليسوا الآن في الجنة، فلم يجز أن يخرج عن هذا الموضع الذي هو عن يمين آدم (ص)أحد، فيقال: إنه في الجنة من الآن إلا من جاء النص باستثنائه، وهم الأنبياء والشهداء فقط، وسائرهم هناك عن يمين آدم (ص)حيث رآهم رسول الله (ص) وهذه قسمة ضرورية
وإذ قد صح أن السابقين المقربين هم الشهداء بعد الأنبياء (ص) وأن أصحاب المشأمة هم الكفار، فلم تبق إلا الطبقة الثالثة فهي لهم بيقين
ومن البرهان أيضا على ما قلناه أن الله تعالى رتبهم على ثلاث طبقات: السابقون المقربون في جنات النعيم، وأصحاب اليمين، وأصحاب المشأمة
فلو كان أصحاب اليمين في الجنة بدءا من الآن لكانوا طبقتين فقط، وكذلك لو كان الأنبياء والشهداء مع سائر المؤمنين في محلهم حيث هم الآن لكانوا طبقتين أيضا، ولكانت الثالثة ساقطة، وهذا باطل فصح ما قلناه من الفرق بين المقربين وبين أصحاب اليمين، وتناظرت النصوص كلها، وتبين أن أصحاب اليمين وإن كانوا قد ذكر الله أنهم: { في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وفرش مرفوعة إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين} فإنما هذا بنص الآية على ما يصيرون إليه بعد الحساب يوم القيامة بلا شك لما ذكرنا
يؤيد هذا قول الله عز وجل في آخر السورة نفسها: {فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم إن هذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم}
فنص تعالى على أن هذه حالهم وقسمهم فجعلهم أيضا ثلاث طبقات:
أولها: المقربون المعجل لهم الجنة والنعيم
وثانيها: أصحاب اليمين الذين لهم السلام معجلا فقط
وثالثها: المكذبون الضالون، وهذا بين"
الخطا الذى تكرر فى الفقرة السابقة هو أن اصحاب اليمين ليسوا فى الجنة حاليا وهو ما يخالف النص التالى:
"كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين فى جنات "
كما يخالف أن كل من يموت من المسلمين أى كل من تتوفاهم الملائكة يدخلون الجنة كما قال تعالى :
"الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون"
ثم تناول الرجل مسألة أن بعض المؤمنين يدخلون النار وسخرجون منها للجنة فقال :
"ثم قد صح بالنص والإجماع أن الكفار مخلدون في النار غير خارجين منها أبدا بعد دخولهم فيها يوم القيامة، وصحت أيضا بنص القرآن الموازنة، وأنه لا يجزى أحد إلا بما كسب، وصح عن النبي (ص)أنه ذكر من يخرج من النار على مراتب، وأنه يقدم من في قلبه مثقال شعيرة، ثم مثقال برة، ثم مثقال كذا، على حسب ما ذكر من المقادير مع قول لا إله إلا الله، فلم يبق إلا أنهم المؤمنون المسيئون بيقين لاشك فيه
ونحن ذاكرون نص الحديث، إذ الغرض تبين ما فيه من المقادير، وليكون أقرب لفهم ما تعلق من هذه المسألة به، لكونه حاضرا معها متصلا بها، إن شاء الله فنقول، وبالله تعالى التوفيق:
إنه قد روى الثقتان: سعيد بن أبى عروبة وهشام صاحب الدستوائي كلاهما عن قتادة عن أنس بن مالك أن النبي (ص)قال: «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة»
هذا نص الحديث رويناه من طريق مسلم بن الحجاج في الصحيح، ورويناه من طريق حماد بن زيد عن معبد بن هلال العنزي قال: انطلقنا إلى أنس بن مالك وتشفعنا بثابت فانتهينا إليه، وهو يصلي الضحى فاستأذن لنا ثابت فدخلنا عليه فأجلس ثابتا معه على سريره فقال له: يا أبا حمزة إن إخوانك من أهل البصرة يسألونك أن تحدثهم حديث الشفاعة فقال: حدثنا محمد رسول الله (ص)قال: «إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض فيأتون آدم فيقولون له اشفع لنا إلى ربك فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم، فإنه خليل الله»
وذكر الحديث إلى قوله (ص): فأقول: «(رب) أمتي أمتي، فيقال: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع فأقول: أمتي أمتي، فيقال لي: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها، فأنطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال لي: انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل»ثم قال: إنهم خرجوا من عند أنس فأتوا الحسن بن أبي الحسن البصري فزادهم في هذا الحديث: إن أنسا حدثهم به عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: «ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول: يا رب إيذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، قال: ليس ذلك لك، أو قال ليس ذلك إليك، ولكن وعزتي وكبريائي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله»، وذكر باقي الخبر
وقد جاء من طريق ثابتة مجيء التواتر
ففي هذا بيان المقادير التي جعلها الله تعالى سببا لخروجهم من النار بالشفاعة على حسب مآلهم منها تفضلا من الله عز وجل، إذ جعل ما اكتسبوا من الخير وعملوه مما قد كان الله تعالى هو الموفق له، والمعين عليه، والمهيئ لآلات الاكتساب له، سبيلا إلى الفوز والنجاة، تغمدا منه برحمته لهم، كما شاء لا إله إلا هو
وفيه أن تلك المقادير المذكورة من مثقال برة وذرة إنما هي مما سوى الإيمان، الذي هو قول لا إله إلا الله، لكن من سائر الأعمال التي تسمى إيمانا أيضا، لقوله تعالى فيمن قال لا إله إلا الله، وليس له غيرها: «ليس ذلك لك»وأبانهم عن أهل تلك المقادير لتوحده عز وجل بإخراجهم من النار
وهذا بين والحمد لله
وهذا أيضا يبين أن الذي توحد الله عز وجل بإخراجهم من النار فيمن قال لا إله إلا الله، ولم يعمل خيرا قط، إنما هو من قالها مرة واحدة فقط مصدقا ومات على ذلك، لأن قول لا إله إلا الله حسنة، فإذا كررها حصلت له حسنة أخرى، فهو أزيد خيرا ممن لم يقلها إلا مرة واحدة فقط
ونص الخبر يدل على أن الذين توحد الله تعالى بإخراجهم برحمته لا بالشفاعة إنما هم من ليس في المؤمنين أحد أقل خيرا منهم،
هذا نص الخبر المذكور وغيره من الآثار الثابتة عن رسول الله (ص) الواردة في هذا الباب"
والرجل هنا يفترى على الله عندما يقول أنه صح دخول بعض المؤمنين النار بالنص لأنه لا توجد آية واحدة فى القرآن تقول هذا الكلام والغريب أن من اعتبروهم مؤمنين وهم ليسوا كذلك وهم الفسقة النص فيهم أنهم مخلدون فى النار كلما ارادوا الخروج أعيدوا للنار وفى هذا قال تعالى :
"وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذى كنتم به تكذبون"
ولا يوجد ما قاله الرجل من وجود المؤمنين المسيئين لأن الله تعهد لما أساء من المسلمين بالغفران طالما تابوا من إساءتهم فقال :
"وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وأخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم"
والغفران هو العفو عن العقاب وقال ايضا:
"إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما"
فتكفير السيئات وهو العفو عن عقاب المؤمنين لكل المؤمنين بلا تحديد كما فى قوله تعالى :
"والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذى كانوا يعملون"
كما ان حديث الشفاعة وما يلحقه فيه تناقضات كثيرة لا يمكن الجمع بينها وفى بعض رواياته خطأ حسابى لا يمكن أن يقع فى الوحى ومن تلك التناقضات:
أولها عدد سجودات النبى(ص) الله ففى الرواية الأولى"فإذا أنا رأيته وقعت ساجدا 000 ثم أعود فأقع ساجدا 000 "أى مرتين وفى خلفها قالوا "ثم آتيه الرابعة أو أعود الرابعة "وقطعا مرتين غير أربعة وثانيها أوزان الخير ففى رواية "ما يزن شعيرة 00 ما يزن برة 00 ما يزن ذرة "وفى رواية "حبة من برة أو شعيرة 00 حبة من خردل 00 فمن كان فى قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل "وقطعا هناك اتفاق بين الشعيرة والبرة وهناك تناقض بين الذرة وحبة الخردل وما هو أدنى أدنى أدنى منها وثالثها أكل النبى (ص)ففى رواية "أتى رسول الله يوما بلحم فرفع إليه الذراع "وفى رواية "وضعت بين يدى رسول الله قصعة من ثريد ولحم فتناول الذراع "فهنا الأكل لحم فقط وفى الثانية ثريد ولحم وهو تناقض وفى الأول رفع الذراع للنبى (ص)من الأخرين بينما فى الثانية هو من رفعه بنفسه ورابعها ما بين مصرعى الجنة ففى رواية "او كما بين مكة وبصرى "وفى نفس الرواية وما بعدها "هجر ومكة "والمسافة بين مكة وهجر غير المسافة بين مكة وبصرى وخامسها الأنبياء الذين ذهب الناس لهم ففى الرواية آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وفى رواية آدم وإبراهيم وموسى وعيسى وهو تناقض حيث نوح غير موجود فى الثانية
ثم آتانا الرجل بكلام خاطىء قال فيه:
"ثم إنا وجدنا أصحاب اليمين من جميع المؤمنين، وهم الطبقة الثانية من الطبقات التي ذكرنا أيضا ينقسمون في الموازنة أقساما ثلاثة:
- إما متساو خيره وشره
- وإما من رجحت حسناته على سيئاته، فهذا فائز بنص القرآن
- وإما من رجحت سيئاته مع ما معه من الكبائر على حسناته
وفيه: فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون, ولم يبق إلا أرحم الراحمين, فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما هذا لفظ مسلم (183) عن أبي سعيد
فهذا يقتص منه بما فضل من معاصيه على حسناته من لفحة إلى آخر من يخرج من النار، على ما صح عن النبي (ص)بمقدار قلة شره وكثرته، وقال تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات}
وقد صح أن أهل الأعراف من أحد هذه الأقسام، إذ ليس لها رابع، وليسوا بلا شك من الطبقتين اللتين ذكرنا آخرا فوجب أنهم الطبقة التي ذكرنا أولا، فإنه لم يبق غيرهم، وهذه قسمة ضرورية
ثم رجعنا إلى المؤمنين الذين وجب الاقتصاص منهم بالنار بزيادة شرهم على خيرهم فوجدناهم ينقسون فيما لهم من الخير والشر على أقسام أربعة، ثم تتشعب هذه الأربعة الأقسام على اثني عشر قسما:
فالأربعة الأول: كثير الخير كثير الشر، كثير الخير قليل الشر، قليل الخير قليل الشر، قليل الخير كثير الشر
إلا أن أهل هذه التقسيمات كلهم قد فاض شرهم وما معهم من الكبائر على خيرهم، وهؤلاء يحتسب لهم بكلية ما مع كل امرئ منهم من الخير وبكلية ما معه من الشر، إذ لكل ذلك حظ من المراعاة والحساب، فإذا اقتص منه فيما فضل له من الشر حتى يفضل له من الخير شيء مالا أقل منه، وهو التصديق بالإسلام والنطق بذلك مرة واحدة، وقع الخروج حينئذ من النار بالشفاعة التي رحم الله تعالى بها عباده المؤمنين المسرفين على أنفسهم
وقد علمنا أن من عمل من كل أعمال الخير فرضها وتطوعها ثم قتل النفس وعمل من كل الكبائر، فإنه بالإضافة إلى من لم يعمل شيئا من الخير وشارك في الكبائر مشاركة المذكور قبله سواء سواء، أخف عذابا، وأقل في النار مكثا، على ما أوجبته النصوص المذكورة
وهكذا الحكم في قلة الشر وكثرته مع قلة الخير أو كثرته فلنتكلم الآن بعون الله تعالى وعصمته في كثير الخير كثير الشر مع قليل الشر كثير الخير بالإضافة إليه فوجدناهما قد استويا في كثرة الخير، واختلفا في كمية الشر، نعني في قلته وكثرته"
كما خالف النص القرآنى فى أن الحسنة الواحدة تزيل كل السيئات طالما كانت بعدها كما قال تعالى " إن الحسنات يذهبن السيئات" وهو ما فسرته المقولة المأثورة :
"الإسلام يجب ما قبله"
وهذا التقسيم لا دليل عليه من القرآن ولا حتى من الروايات المنسوبة للنبى(ص) وهو كلام لو طبقناه لدخل العديد من الأنبياء(ص) النار وأولهم موسى(ص) لأنه ارتكب كبيرة القتل ولدخل يونس(ص) النار أيضا لأنه ارتكب كبيرة أنه ظن أن الله لن يقدر عليه ولدخل إبراهيم(ص) النار لأنه طلب من النجوم أن تشفيه من سقمه حسب ظاهر النص
كما ان التقسيم الخاطىء خالف القرآن فى العديد من الأمور:
الأول وجود تساوى للحسنات والسيئات وهو ما يخالف أن المذكور خفة وثقل فقط ولا توجد حالة التساوى المزعومة كما قال تعالى "فأما من ثقلت موازينه فهو فى عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاويه وما أدراك ما هيه نار حامية"
فالثقل والخفة لا يتعلق بعدد سيئات أو حسنات وإنما يتعلق بأمرين إسلام وكفر فمن جاء بالإسلام ثقلت موازينه أى قبل عمله ومن جاء بأى دين من اديان الكفر لا يقبل عمله كما قال تعالى " "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الأخرة من الخاسرين"
وعاد الحميدى لقول النفس التخريف وهو دخول بعض المؤمنين النار وخروجهم منها للجنة ناسبا قول هذا للنبى(ص) الذى لم يقل شىء فقال:
"وقد علمنا بتقسيم رسول الله (ص)في خبره الصادق من خروج من له مقدار الشعيرة من الخير معا، ثم خروج من له مقدار البرة من الخير معا، ثم كذلك سائر المقادير في القلة، أن الخروج من النار لأهل كل مقدار منها، يكون معا بلا شك في ذلك
وعلمنا بالنص أنهم معاقبون ومقتص منهم فيما كسبوا من الشر فلم يبق إلا أن الكثير الشر مقدم في الدخول في النار على القليل الشر بمقدار ما زاد شره على شر الآخر، ليكون خروجهما معا بعد أن يقتص من كل واحد منهما بمقدار ما فضل له من الشر على ما معه من الخير
وليس في الممكن أن يكون دخولهما في النار معا بلا شك، إذ لا شك في أنه كان يتم الاقتصاص من الأقل شرا قبل تمامه من الأكثر شرا فيخرج من النار قبل خروج من له من الخير كالذي له سواء سواء، وهذا خلاف نص الحديث اللهم إلا أن يكون وجه آخر وهو أن يزاد في كيفية عذاب من هو أكثر شرا، ويفتر من عذاب من هو أقل شرا، فيكونا قد اتفقا في مدة العذاب واختلفا في شدته وتهوينه، فهذا أيضا ممكن، والله أعلم بأيهما يكون إلا أنه لابد من أحد الوجهين، إذ ما عداهما مخالف لوحي الله تعالى إلى رسوله (ص) وما خالف الوحي فهو باطل بلا شك
ثم نظرنا في قليل الخير قليل الشر مع قليل الخير كثير الشر فوجدناهما قد استويا في قلة الخير واختلفا في كمية الشر، نعني في قلته وكثرته فصح خروجهما من النار معا ولابد، إذ مقدار خيريهما واحد
فإذ ذلك كذلك فلا بد من تقديم كثير الشر في دخول النار، إذ مقدار الاقتصاص منه أكثر من مقدار الاقتصاص من الذي هو أقل شرا منه فيقدم عليه بمقدار ما يقتص منه من الزيادة التي تزيد على شر الآخر ضرورة، ثم يدخل الآخر ليكون خروجهما (من النار) معا
والوجه الآخر كما قدمناه وهو أن يدخلا النار معا فيزاد في عذاب الأكثر شرا، ويفتر عذاب الأقل شرا، فيتفقان في المدة ويختلفان في شدة العذاب وتهوينه، والله أعلم ثم نظرنا في كثير الخير كثير الشر مع قليل الشر قليل الخير، فوجدناهما قد اختلفا في كمية الشر وكمية الخير، وقد علمنا أن الأكثر خيرا أسرع خروجا من النار، وأن الأكثر شرا أكثر عقوبة، فصح أن الأكثر شرا يقدم بيقين في الدخول في النار قبل الأقل منه شرا، وأنه أيضا وإن تقدم في دخول النار، فإنه المقدم في الخروج منها قبل الآخر، لأنه أكثر منه خيرا
وأن القليل الشر وإن تأخر في دخول النار بعد الذي هو أكثر منه شرا، فإنه أيضا يتأخر في الخروج منها بعده، لأنه أقل منه خيرا
أو وجه آخر، وهو: أن يدخلا النار معا ويزاد في عذاب الأكثر شرا ليستوفى القصاص منه في قليل المدة فيخرج قبل الذي هو أقل خيرا منه ولابد، ويفتر في عذاب الأقل شرا، وتطول مدته، فيكون خروجه منها ولابد مع طبقته، وبعد خروج من هو أكثر خيرا منه، هذا ما لا يمكن سواه أصلا
ثم نظرنا في كثير الخير قليل الشر مع قليل الخير كثير الشر فوجدناهما قد اختلفا في قلة الخير وكثرته، وفي قلة الشر وكثرته، فعلمنا يقينا أن الأكثر شرا يدخل النار قبل الأقل شرا، وأنه أيضا يخرج منها بعده لقلة خيره عن خير الآخر
والوجه الآخر، وهو: أن يدخلا معا في النار فيتم القصاص من القليل الشر قبل تمام القصاص من الأكثر منه شرا، فيخرج الأكثر خيرا قبل خروج الأقل خيرا ولابد
ثم نظرنا في كثير الخير كثير الشر مع قليل الخير كثير الشر فوجدناهما متفقين في كثرة الشر مختلفين في قلة الخير وكثرته، فالأكثر خيرا مقدم في دخول النار على القليل الخير، ليتم القصاص منه قبل تمام القصاص من الآخر، ويخرج من النار لكثرة خيره قبل خروج الأقل خيرا ولابد
والوجه الآخر، وهو: أن يدخلا النار معا ويزاد في عذاب الأكثر خيرا ويهون على الآخر، ليتم القصاص من الأكثر خيرا قبل تمام القصاص من الآخر، ليخرج قبله ولابد لكثرة خيره عليه
ثم نظرنا في قليل الخير قليل الشر مع كثير الخير قليل الشر فوجدناهما قد اتفقا في قلة الشر، واختلفا في قلة الخير وكثرته، فالأكثر خيرا يقدم في الدخول في النار وفي الخروج منها
والوجه الآخر، وهو: دخولهما معا ويزاد ولابد في عذاب الأكثر خيرا ليتم القصاص منه، ويخرج ولابد قبل خروج الذي هو أقل خيرا منه
فحصل من كل هذا أنه جائز أن يدخل الأكثر شرا في النار قبل دخول الأقل شرا، إن استوى عذابهما، فإن أدخلا معا فلا بد من مضاعفة العذاب للأكثر شرا، ليخرج مع من معه من الخير كالذي معه، أو ليخرج قبل الذي هو أقل خيرا منه أو بعد الذي هو أكثر خيرا منه ولا بد، إنما يراعى في الخروج من النار كثرة الخير وقلته فقط، كما جاء النص
ويراعى في الشر القصاص فقط إما بطول المدة وإما بمضاعفة العذاب ولا بد، كما جاء النص أيضا بقوله تعالى: {اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم}
إلا أنا تأملنا قول الله تعالى: {ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون}
فوجدنا فيه دليلا على صحة الوجه الأول فقط، وأن الأكثر معاصي يتقدم في النار على طبقة أقل معاصي منه"
شرح الرجل فى الفقرات السابقة احتمالات توزيع العقاب على المؤمنين وانتهى إلى ان الاحتمال الأول الذى قاله هو الصحيح وهو" فلم يبق إلا أن الكثير الشر مقدم في الدخول في النار على القليل الشر بمقدار ما زاد شره على شر الآخر، ليكون خروجهما معا بعد أن يقتص من كل واحد منهما بمقدار ما فضل له من الشر على ما معه من الخير"
وهو كلام خاطىء كما سبق أن قلنا أنه طبقا لنصوص القرآن لا يدخل أى مؤمن النار وأما كون كثير الشر مقدم على قليل الشر فيخالف أن الناس يدخلون الناس زمر أى جماعات كما قال تعالى "وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا" كما يخالف ما سبق أن قلناه عفو الله عن سيئات المؤمنين كما قال "وهو الذى يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون"
فالعفو مانع لأى عقاب على السيئات
ثم عاد لنفس التخريف وهو تقسيم المؤمنين لأربع فقال :
ثم نقول: إن أهل الموازين على أربعة أقسام:
فقسم رجحت حسناتهم، وهؤلاء صنفان في كمية الرجحان ومائيته:
1 - إما صنف فضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة فقط، وهم طبقة واحدة
2 - وإما صنف فضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة وزيادة خير، وهؤلاء مختلفون باختلاف الفاضل لهم
وكلا هذين الصنفين في الجنة إثر الموازنة بلا فصل إلا جواز الصراط
والقسم الثاني: من استوت حسناته وسيئاته مع ما معه من الكبائر فلم يفضل لهم خير ولا شر، وهؤلاء أصحاب الأعراف ولا بد من مجازاتهم كما رتب الباري عز وجل على شيء من سيئاتهم حتى يفضل لهم بعد سقوط ذلك بالجزاء عليه التصديق والنطق به مرة واحدة فقط، وهي الوقوف بين الجنة والنار، إذ لا يدخل الجنة أحد إلا بإيمان، كما جاءت النصوص، وهؤلاء طبقة واحدة
والقسم الثالث: من رجحت سيئاته وما معه من الكبائر على حسناته، وفي جملتها التصديق، فهؤلاء معاقبون على الفاضل لهم من الشر على ما قابل حسناتهم وإيمانهم من شرهم، حتى يفضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة الذي لا يدخل أحد الجنة إلا به وهؤلاء مختلفون في التقدم في دخول النار وفي الخروج منها، وفي شدة العذاب وخفته اختلافا شديدا على ما بيناه قبل ومن جملة هؤلاء: هو من لم يعمل خيرا قط غير الإسلام اعتقاده والقول به مرة واحدة فقط فهؤلاء يعاقبون على كل ما سلف لهم حتى يفضل لهم عقد الإيمان والنطق به مرة واحدة وهؤلاء أيضا مختلفون في التقدم في دخول النار وفي التأخر في ذلك، وفي شدة العذاب وتهوينه على مقدار ما لكل واحد من المعاصي إلا أنهم كلهم مستوون في درجاتهم في الجنة مع أصحاب الأعراف، ومع الصنف الذين فضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة فقط، سواء في كل ذلك من تقدم دخوله الجنة من كل من ذكرنا ومن تأخر دخوله فيها، كلهم ليس لهم عمل خير فاضل على شر أصلا إلا العقد والنطق بذلك مرة واحدة قال رسول الله (ص)«لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة» "
ولا جزاء إلا على عمل برحمة الله تعالى، قال الله عز وجل: {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} ، وقال تعالى: {جزاء بما كانوا يعملون} وإنما يتفاضلون بالمسابقة إلى الجنة أو بالخلاص من النار، أو بقلة المكث فيها، أو بتهوين العذاب على بعض دون بعض، ثم يتفاضل من فضل له على سيئاته عمل قل أو كثر من الخير على حسب ما عمل من الخير في الجنة بعلو الدرجات وكثرة النعيم
والقسم الرابع: الكفار ولا بد لهم من الموازنة وقد نص الله تعالى على ذلك في سورة قد أفلح المؤمنين في قوله تعالى: {ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون}
فصح بهذه الآية أن الكفار أيضا يوازنون، وأن موازينهم تخف لا يجوز غير هذا، لأن من خالف هذا كان ذلك منه صرفا للآية عن ظاهرها وعن مقتضى لفظها بالدعوى، وتحريفا للكلم عن مواضعه بلا برهان، وهذا لا يجوز"
وما قاله تكرار للأخطاء السابقة عدا خطأ تكرر فيها وفى فقرات سابقة وهو دخول أهل الأعراف النار وهو يخالف أنهم لا يدخلون النار كما قال تعالى :
"وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون"فهنا أمرهم الله بدخول الجنة ولم يدخلهم النار ولا يوجد فى الايات كلها جملة تدل على هذا الخبل
وقد بين الحميدى أنه لا تعارض بين آيات الموازين وبين قول الله فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا فقال :
"وأما قوله عز وجل: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا} فليس نفيا للموازنة، لأن كلام الله لا يتعارض، وإنما هو أنه لا تثقل موازينهم بل تخف، إذ ليس فيها التصديق الذي هو العقد والقول الذي لا يصح عمل صالح إلا به، إلا أنهم يختلفون في مقدار المعاصي، وفي كيفية العذاب في شدته ونقصانه على حسب معاصيهم، وهم مخلدون في النار أبدا، ولا يجازون بما لم يعملوا ولا كانوا سببا لعمله، ففي هذا يتفاضلون في العذاب
وقد بين الله عز وجل بقوله: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار}
والأسفل بلا شك من باب الإضافة، ويقتضي ولا بد أعلى منه في نوعه وأخبر رسول الله (ص)بما خفف عن أبي طالب بأنه لم يؤذ قط رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأما أعمالهم الصالحة فمحبطة بنص القرآن لا يجازون عليها في الآخرة أصلا قال الله تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} "
القول بتخفيف العذاب عن أبى طالب يتعارض مع أن العذاب مضاعف للكفار كما قال تعالى :
"قال ادخلوا فى أمم من قبلكم من الجن والإنس فى النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فأتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون"
ثم قال مقسما الناس لست طبقات منهم خمس لأهل الجنة وقد سبق أن قسمهم مرتين لأربعة فيما سبق فقال:
"ولابد من الموازنة لكل أحد من الأنبياء والرسل والمؤمنين التائبين والمصرين والكفار، وليس الغفران للأنبياء (ص)والتائبين من المؤمنين بمانع من الموازنة لهم لأنهم بلا شك متفاضلون في الأعمال الصالحة وفي الفضائل
والموازنة إنما هي توقيف لهم على ما جعله الله تعالى جزاء لهم على تلك الأعمال الفاضلة، فيعلم كل امرئ منهم ما يستحق في الجنة من الجزاء على أعماله الصالحة، ويعلم أهل النار أيضا مقدار ما يستحقه كل امرئ منهم في النار من الجزاء على أعماله الخبيثة مع كفره فقط
فهم كما أوردنا ست طبقات:
أهل النار المخلدون فيها، وهم الكفار وهم المشركون طبقة يتفاضلون في العذاب بمقدار ما عمل كل امرئ منهم من الشر
ثم أهل الجنة خمس طبقات:
الأولى: من ثقلت موازينه فرجحت حسناته على معاصيه بما قل أو كثر، فهؤلاء يتفاضلون في درجات الجنة والعلو فيها، وفي كثرة النعيم بمقدار ما فضل لكل واحد منهم من الأعمال الصالحة
وهؤلاء خمس طبقات على ما نبين بعد هذا
ثم أربع طبقات كلهم في الجنة سواء في الدرجات وفي النعيم، لا فضل لأحد منهم على سائرهم في شيء من ذلك، ولكل امرئ منهم مثل الدنيا وما فيها عشر مرات، كما صح عن النبي (ص)من طريق أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -
وهم من فضل لهم التصديق بالإسلام والنطق به مرة واحدة على ما معه من المعاصي، ومن لم يفضل له شيء بأن استوت حسناته وسيئاته فوقفوا بين الجنة والنار حتى فضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة، وهم أهل الأعراف
وهاتان الطبقتان لا تعذبان بالنار أصلا، ومن فضلت له معصية على كل ما معه من الخير، ومن لم يعمل خيرا قط غير التصديق بالإسلام والنطق به مرة واحدة فقط
وهاتان الطبقتان هما المجازاتان بالنار:
إحداهما على ما فضل لها من المعاصي على ما كان لها من خير
وهي الخارجة من النار بالشفاعة المتقدمة في الخروج على مقدار تفاضلها فيما عملت من الخير الذي قد سقط تفضيله بمقابلة معاصيهم له
والثانية: على ما عملت من الشر، وهي الخارجة من النار برحمة الله تعالى لا بالشفاعة، وهي آخر من يخرج من النار
وكل هذه الطباق الأربع لم يفضل لها شيء غير التصديق بدين الإسلام والنطق به مرة واحدة فقط
فتبارك الله الذي كل أحكامه عدل وقسط لا إله إلا هو المتفضل مع ذلك بما لا يبلغه فهم ولا وصف ولا شكر
نسأل الله أن يجيرنا من النار ومن روعات يوم القيامة بمنه، آمين، وأن ييسرنا لأعمال الطاعة المنجية من كل ذلك، آمين
والطبقة التي فضلت لها أعمال خير تتفاضل بها درجاتهم في الجنة هم أيضا طبقات خمس:
فأولها بعد النبيين عليهم السلام: من أدى جميع الفرائض، وتطوع بخير كثير مع ذلك، واجتنب جميع الكبائر، وقلل من جميع السيئات
إذ لا سبيل إلى أن ينجو أحد من السيئات أو من الهم بها، كما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ قال: «ولا يحيى بن زكريا»
ثم الثانية: من أدى جميع الفرائض، ولم يتطوع بزيادة خير، واجتنب جميع الكبائر، واستكثر مما دون ذلك من السيئات أو استقل
ثم الثالثة: من أدى الفرائض، واجتنب الكبائر، وعمل تطوعا وسيئات
ثم الرابعة: من أدى الفرائض وتطوع أو لم يتطوع، وعمل كبائر وسيئات، ثم تاب من بعد ذلك قبل الموت، أو أقيم عليه الحدود فيما عمل من ذلك
ثم الخامسة: من أدى الفرائض وقصر في بعضها، وتطوع، وعمل كبائر وسيئات ومات مصرا، إلا أن خيره رجح في الميزان على معاصيه، ولو بتكبيرة أو بحسنة هم بها ولم يعملها أو شوكة أزالها من الطريق، أو غير ذلك من مقدار الذرة فصاعدا
كل هذا مسطور في نصوص القرآن والمسند الثابت عن رسول الله (ص) ومعلوم انقسام الناس بضرورة المشاهدة"
الغريب فى كلام الرجل عن التقسيم الخماسى او السداسى هو أنه ينسب هذا لنصوص القرآن مع أنه ذكر فى بداية الكتاب أن الله قسم الناس ثلاث أنواع المقربون وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال وهو ما ذكره فى نصوص أخرى وهى نص المجاهدين والقاعدين وهم المسلمون فى الجنة بالاضافة للكفار وهو قوله تعالى "لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة"
فإن قال قائل: فإذ الأمر هكذا، فما فائدة الشفاعة إذا؟ والجزاء واقع على كل دقيق وجليل من خير وشر لم يتب عنه فاعله
قلنا وبالله تعالى التوفيق: وقوع الجزاء على ما ذكرنا من مراتبه هو فائدة الشفاعة بنص بيان رسول الله (ص)بذلك في الخبر الذي أوردنا قبل
ولولا تفضل الله تعالى بالشفاعة وقبولها لكان له عز وجل أن يخلدنا على سيئة واحدة في النار، ولولا رحمته بأن جعل الجنة جزاء لنا على قليل طاعتنا وعملنا، كما قال تعالى: {ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون} لكان له عز وجل أن لا يدخلنا الجنة
إذ ليس لأحد عليه تعالى حجة ولا حق، بل له المن على الجميع لا إله إلا هو وصح بهذا معنى قول رسول الله (ص)«إنه لا ينجي أحدا عمله، فقيل له: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» أو كما قال (ص)
فإن قيل: فقد يجازون بما فضل لهم من الشر على ما مع كل امرئ منهم من الخير، ويسقط لكل واحد منهم مما عمل من المعاصي ما قابل ما معه من الخير، فلا شك في أنه قد سقط كل خير عمل من تصديق ومن سائر الأعمال، كما سقط ما قابل ذلك الخير من معاصيه، فكيف تراعى له المقادير المذكورة من مثقال برة وشعيرة وخردلة وغير ذلك؟
قلنا وبالله تعالى التوفيق: إنه بقي له أنه قد عمل خيرا فتفضل الله عز وجل عليهم بأن جعلهم عملوا خيرا، وبأنهم تفاضلوا فيما عملوا من الخير سببا إلى قبول الشفاعة فيهم، وإلى تقدمهم في إخراجهم من النار على مراتب ما كان لكل واحد منهم من عمل الخير جملة فقط، وأخر تعالى من لم يعمل خيرا قط غير التصديق بدين الإسلام والنطق به مرة فقط، فلم يجعل له حظا في الشفاعة ولا في التقدم في الخروج من النار، وتوحد هو عز وجل بإخراجه من النار بعد كل من يخرج منها
كل ما ذكرنا فهو منطو بجملته في الحديث الذي صدرنا به وخارج منه نصا، وهذه جوامع الكلم التي أوتيها (ص)، وهي اقتضاء الكلام القليل للمعاني الكثيرة"
والخطأ فى الفقرة هو ارتباط الشفاعة بما قاله الرجل من المراتب وهو تخريف ظاهر فالشفاعة فهمها الناس خطأ فهى مجردة شهادة على ما حدث من إسلام أو كفر كما قال تعالى "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا"
والله أساسا مستغنى عن الشهادة لأنه عالم بكل شىء وكل شىء عمله الناس مسجل صوت وصورة ومن ثم الشهادة لا تؤثر فى حكم الله لأن الحكم له وحده ولذا ربطها للمسلمين بقوله "ولا يشفعون إلا لمن ارتضى"
فالشفاعة لمن رضى الله عنه وطالما الله رضى عنه فقد حكم بدخوله الجنة من قبل الشفاعة