أما مثال الدهرية في هذا الذين جحدوا الصانع سبحانه وتعالى فمثال من أحس مصنوعات فلم يعترف أنها مصنوعات بل نسب ما رأى فيها من الصنعة إلى الاتفاق والأمر الذي يحدث من ذاتهقلت ذكره لهذين النوعين كلام صحيح حسن في الجملة وإن كان في ضمنه مواضع قصر فيها مثلما ذكره في دلالة حركة الفلك وتفسير الآية وتسبيح المخلوقات واستدلال إبراهيم ودليل الأحداث والاختراع يدل على ربوبية الله تعالى ودليل الحكمة والعناية والرحمة يدل على رحمته وقد فتح الله كتابه العزيز بقوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم وهذا أجود من طريق المتكلمين طريقة الأعراض وإن كان لم يستقص الكلام في دلالة ثبوت الصانع تعالى ولم يفصل إحداث الجواهر وغير ذلك
مع أن طرق معرفة الصانع بالفطرة والضرورة وبالنظر والاستدلال بنفس الذوات وبصفاته باب واسع ليس هذا موضعه وكثير من يرغب عن طريقة الأعراض يذكر ما في خلق الإنسان أو ما في خلق ما يشهد حدوثه من هذين النوعين من الحدوث الدال على المحدث والحكمة الدالة على قصد الصانع ورحمته ونعمته بما يدل عليه
(بيان تبليس الجهمية)
فإن الحجة مبناها على أنه لا بد للحوادث من تأثير وجودي فإن كان محدثا لزم التسلسل وهو ممتنع وإن كان قديما لزم قدم الأثر
فيقال له : إن كان التسلسل في الآثار ممكنا بطلت الحجة لإمكان حدوثه عن تأثير حادث وذلك عن تأثير حادث وهلم جرا وامتناع التسلسل مقدمة من مقدمات الدليل فإذا بطلت مقدماته بطل إن كان التسلسل ممتنعا لزم أن تكون الحوادث حدثت عن تأثير وجودي قديم وحينئذ فيمكن حدوث العالم بدون تسلسل الحوادث عن تأثير قديم وهو المطلوب
وإن شئت أدخلت المقدمة الأولى في التقدير أيضا كما تقدم التنبيه عليه ن حتى يظهر الجواب على كل تقدير وعلى قول كل طائفة من نظار المسلمين إذ كان منهم من يقول : التأثير في المحدثات وجودي قديم ومنهم من يقول هو أمر عدمي ومنهم من يقول بتسلسل الآثار الحادثة
والدهري بنى حجته عل أنه لا بد من تأثير وجودي قديم وأنه حينئذ يلزم قدم الأثر
فيجاب على كل تقدير فيقال : التأثير إن كان عدميا بطلت المقدمة الأولى وجاز حدوث الحوادث بدون تأثير وجودي وإن كان وجوديا ـ وتسلسل الحوادث ممكن ـ أمكن حدوثه بآثار متسلسلة وبطل قولك بامتناع تسلسل الآثار وإن كان تسلسل الآثار ممتنعا لزالمسلم إما التأثير القديم وإما التأثير الحادث بالقدرة أو بالقدرة والمشيئة القديمة وحينئذ فالحوادث مشهودة فتكون صادرة عن تأثير قديم أو حادث وإذا جاز صدور الحوادث عن تأثير قديم أو حادث بطلت الحجة
وأصل هذا الكلام المسلم أنا نشهد حدوث الحوادث فلا بد لها من محدث هو المؤثر وإحداثه هو التأثير فالقول في إحداث هذه الحوادث والتأثير فيها كالقول في إحداث العالم والتأثر فيه
وهؤلاء الدهرية بنوا هذه الحجة على أنه لا بد من تأثير حادث فيفتقر إلى تأثير حادث كما بنوا الأولى على أنه لا بد من سبب حادث فمأخذ الحجتين من مشكاة التسلسل في الآثار : القائلون بقدم العالم والقائلون بحدوثه كما يجوزه طوائف من أهل الملل أو أكثر أهل الملل إذا أجيبوا على التقديرين وقيل لهالمسلم إن كان التسلسل جائزا بطلت هذه الحجة وتلك وإن لم يكن جائزا بطلت أيضا هذه وتلك كان هذا جوابا قاطعا
ولكن لفظ التسلسل فيه إجمال واشتباه كما في لفظ الدور فإن الدور يراد به : الدور القبلي وهو ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء ويراد به الدور المعي الاقتراني وهو جائز بصريح العقل واتفاق العقلاء ومن أطلق امتناع الدور فمراده الأول أو هو غالط في الإطلاق
ولفظ التسلسل يراد به التسلسل في المؤثرات وهو أن يكون للحادث فاعل وللفاعل فاعل وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء وهذا هو التسلسل الذي أمر التبي صلى الله عليه وسلم بأن يستعاذ بالله منه وأمر بالانتهاء عنه وأن يقول القائل : آمنت بالله ورسله
وهذا التسلسل في المؤثرات والفاعلين يقترن به تسلسل آخر وهو التسلسل في تمام الفعل والتأثير وهو نوعان : تسلسل في جنس الفعل وتسلسل في الفعل المعين فالأول ـ مثل أن يقال : لا يفعل الفاعل شيئا أصلا حتى يفعل شيئا معينا أو لا يحدث شيئا حتى يحدث شيئا أو لا يصدر عنه شيء حتى يصدر عنه شيء فهذا أيضا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء
وهذا هو الذي يصح أن يجعل مقدمة في دوام الفاعلية بأن يقال : كل الأمور المعتبرة في كونه فاعلا : إن كانت قديمة لزم قدم الفعل وإن حدث فيها شيء فالقول في حدوث ذلك الحادث كالقول في حدوث غيره فالأمور المعتبرة في حدوث ذلك الحادث : إن كانت قديمة لزم قدم الفعل وإن كانت محدثة لزم أن لا يحدث شيء من الأشياء حتى يحدث شيء
وهذا جمع بين النقيضين وقد يسمى هذا دورا ويسمى تسلسلا وهذا هو الذي أجاب عنه من أجاب بالمعارضة بالحوادث المشهودة
وجوابه أن يقال : أتعني بالأمور المعتبرة الأمور المعتبرة في جنس كونه فاعلا أم الأمور المعتبرة في فعل شيء معين ؟ أما الأول فلا يلزم من دوامها دوام فعل شيء من العالم وأما الثاني : فيجوز أن يكون كل ما يعتبر في حدوث المعين كالفلك وغيره حادثا ولا يلزم من حدوث شرط الحادث المعين هذا التسلسل بل يلزم منه التسلسل المتعاقب في الآثار وهو أن يكون قبل ذلك الحادث حادث وقبل ذلك الحادث حادث وهذا جائز عندهم وعند أئمة المسلمين وعلى هذا فيجوز أن يكون كل ما في العالم حادثا مع التزام هذا التسلسل الذي يجوزونه
وقد يراد بالتسلسل في حدوث الحادث العين أو في جنس الحوادث : أن يكون قد حدث مع الحادث تمام مؤثره وحدث مع حدوث تمام المؤثر وهلم جرا
وهذا أيضا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء وهو من جنس التسلسل في تمام التأثير
فقد تبين أن التسلسل إذا أريد به أن يحدث مع كل حادث حادث يقارنه يكون تما تأثيره مع الآخر حادث وهلم جرا فهذا ممتنع من جنس قول معمر في المعاني التسلسلة وإن أريد به أن يحدث قبل كل حادث حادث وهلم جرا فهذا فيه قولان وأئمة المسلمين وأئمة الفلاسفة يجوزونه كما أن التسلسل يراد به التسلسل في المؤثرات وفي تمام التأثير يراد به التسلسل المتعاقب شيئا بعد شيء ويراد به التسلسل المقارن شيئا مع شيء فقول إنها أيضا : إن المؤثر يستلزم أثره يراد به أن يكون عقبه فهذا هو الاستلزام المعروف عند جمهور العقلاء وعلى هذا فيمتنع أن يكون في العالم شيء قديم
والناس لهم في استلزام المؤثر أثره قولان :
فمن قال : إن الحادث يحدث في الفاعل بدون سبب حادث فإنه يقول : المؤثر التام لا يجب أن يكون أثره معه بل يجوز تراخيه ويقول : أن القادر المختار يرجع أحد مقدوريه بمجرد قدرته التي لم تزل أو بمجرد مشيئته التي لم تزل وإن لم يحدث عند وجود الحادث سبب
والقول الثاني : أن المؤثر التام يستلزم أثره لكن في معنى هذا الاستلزام قولين : أحدهما : أن يكون معه بحيث يكون زمان الأثر زمان المؤثر فهذا هو الذي تقوله المتفلسفة وهو معلوم الفساد بصريح العقل عند جمهور العقلاء
والثاني : أن يكون الأثر عقب تمام المؤثر وهذا يقر به جمهور العقلاء وهو يستلزم أن لا يكون في العالم شيء قديم بل كل ما فعله القديم الواجب بنفسه فهو محدث
وإن قيل : إنه لم يزل فعالا وإن قيل بدوام فاعليته فذلك لا يناقض حدوث كل ما سواه بل هو مستلزم لحدوث كل ما سواه فإن كل مفعول فهو محدث فكل ما سواه مفعول فهو محدث مسبوق بالعدم فإن المسبوق بغيره سبقا زمانيا لا يكون قديما والأثر المتعقب لمؤثره الذي زمانه عقب زمان تمام مؤثره ليس مقارنا له في الزمان بل زمنه متعقب لزمان تمام التأثير كتقدم بعض أجزاء الزمان على بعض وليس في أجزاء الزمان شيء قديم وإن كان جنسه قديما بل كل جزء من الزمان مسبوق بآخر فليس من التأثيرات المعينة تأثير قديم كما ليس من أجزاء الزمان جزء قديم
فمن تدبر هذه الحقائق وتبين له ما فيها من الاشتباه والالتباس : تبين له محارات أكابر النظار في هذه المهامه التي تحار فيها الأبصار والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
وحينئذ فيقال : الدهرية يزعمون أن حركات الفلك لا بداية لها ولا نهاية لا يجعلون لها آخرا تنتهي إليه فلا يصح اعتمادهم على أن هذه الحوادث متناهية من أحد الجانبين بل يلزمهم قطعا أن تكون الحركة الفلكية التي زعموا أنها لم تزل ولا تزال متفاضلة فدورات زحل عنهم لم تزل ولا تزال وكذلك دورات الشمس والقمر مع أن دورات القمر دورات بقدر دورات الشمس اثنتي عشرة مرة ودورات الشمس بقدر دورات زحل ثلاثين مرة فكل من هذين لا يتناهى في الماضي والمستقبل وهذا أقل من هذا بقدر متناه وهذا أزيد من هذا بقدر متناه فإذا كان الأقول من غيره متناهيا لزم أن يكون كل من الدورات متناهيا
وهذا الوجه لا يرد على من قال من أئمة الإسلام وأهل الملل بجواز حوادث لا تتناهى فإن أولئك يقولون بأن حركة الفلك لها ابتداء ولها انتهاء وأنه محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن وأنه ينشق وينفطر فتبطل حركة الشمس والقمر وكل واحد من دورات الفلك وكواكبه وشمسه وقمره له عندهم بداية ونهاية
الأقوال في مقارنة المعلول لعلته الثانية
قيل : يجب أن يقارن الأثر ولتأثيره بحيث لا يتأخر الأثر عن التأثير في الزمان فلا يتعقبه ولا يتراخى عنه وهذا قول هؤلاء الدهرية القائلين بأن العالم قديم عن موجب قديم وقولهم أفسد الأقوال الثلاثة وأعظمها تناقضا فإنه إذا كان الأثر كذلك لزم أن لا يحدث في العالم شيء فإن العلة التامة إذا كانت تستلزم مقارنة معلولها لها في الزمان وكان الرب علة تامة في الأزل - لزم أن يقارنه كل معلول وكل ما سواه معلول له : إما بواسطة وإما بغير واسطة فيلزم أن لا يحدث في العالم شيء
وأيضا فما يحدث من الحوادث بعد ذلك يفتقر إلى علة تامة مقارنة له فيلزم تسلسل علل أو تمام علل ومعلولات في آن واحد وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء وإن قدر أن الرب لم يكن علة تامة في الأزل بطل قولهم
فيقال له كأنت ألزمت مناظريك من أهل الكلام حدوث حادث بلا سبب حادث وذكرت أن هذا ممتنع بالضرورة وهذا هو المقام المعروف الذي استطالت به المتفلسفة الدهرية على مناظريهم من أهل الكلام المأخوذ في الأصل عن الجهمية والقدرية فيقال له أنت يلزمك ما هو أشد من هذا وهو حدوث الحوادث بلا فاعل وهو الذي ذكرت أنه ساقط بين السقوط وذلك أن الحوادث المشهودة أن قلت لا فاعل لها فقد لزمك هذا القول وإن قلت : لها فاعل قيل لالكافر أفعلها بعد أن لم تكن من غير حدوث شيء في ذاته ام لم يفعلها حتى حدث شيء في ذاته ؟
فإن قلت بالأول قيل لالكافر فهي دائمة أو لها ابتداء ؟ فإن قلت لها ابتداء فهذا قول منازعيك وإن قلت لا ابتداء لها فقد صارت الحوادث كلها تحدث عن فاعل من غير حدوث شيء فيه وقد قلت إنه لا يمكن أن يكن حال الفاعل في المفعول المحدث وقت الفعل هي بعينها حاله وقت عدم الفعل فيلزمك أن لا يكون حاله عند وجود حوادث الطوفان هي حاله عند وجود الحوادث التي قبله فإن الحوادث مختلفة فإن أمكن أن يكون حاله واحدا مع حدوث الحوادث المختلفة أمكن أن يكون حاله واحدا مع تجدد الحوادث لأن الحادث الثاني كالطوفان فيه من الأمور ما لم يكن له قبل ذلك نظير فتلك حوادث لا نظير لها ولا فرق بين إحداث هذا وإحداث غيره وإذا جعل المقتضي لذلك تغيرات تحدث في الفلك كان الكلام في حدوث تلك التغيرات العلوية كالكلام في حدوث التغيرات السفلية
وإن قلت : بل حدث أمر أوجب هذه الحوادث
قيل لالكافر الفاعل له : إن كان هو الأول عاد الإلزام جذعا وإن كان غيره لزمك حدوث الحوادث بلا فاعل وإن التزمت أنه ما فعلها حتى حدث فيه شيء فقد تركت قولك
وأيضا فالفاعل المستكمل لشروط الفعل إما أن يجوز حدوث المفعول عنه بعد أن لم يكن بلا سبب حادث وإما أن لا يجوز فغن جاز فهو قول منازعك الذي ادعيت أنه فاسد بالضرورة وإن لم يجز لزم أن يكون مفعوله مقارنا له لا يتأخر عنه منه شيء فلا يجوز أن يحدث عن الفاعل شيء كما تقوله أنت وإخوانك إنه علة تامة وموجب تام والعلة التامة لا يتأخر عنها معلولها ولا شيء من معلولها فإذا كل ما تأخر عن الأول ليس معلولا للعلة التامة ولا مفعولا للفاعل الأول ولا يجوز أن يكون فعلا لغيره إذ القول في ذلك الغير كالقول فيه فيلزم أن تكون الحوادث كلها حادثة بلا محدث
(درء تعارض العقل والنقل)
مع أن طرق معرفة الصانع بالفطرة والضرورة وبالنظر والاستدلال بنفس الذوات وبصفاته باب واسع ليس هذا موضعه وكثير من يرغب عن طريقة الأعراض يذكر ما في خلق الإنسان أو ما في خلق ما يشهد حدوثه من هذين النوعين من الحدوث الدال على المحدث والحكمة الدالة على قصد الصانع ورحمته ونعمته بما يدل عليه
(بيان تبليس الجهمية)
فإن الحجة مبناها على أنه لا بد للحوادث من تأثير وجودي فإن كان محدثا لزم التسلسل وهو ممتنع وإن كان قديما لزم قدم الأثر
فيقال له : إن كان التسلسل في الآثار ممكنا بطلت الحجة لإمكان حدوثه عن تأثير حادث وذلك عن تأثير حادث وهلم جرا وامتناع التسلسل مقدمة من مقدمات الدليل فإذا بطلت مقدماته بطل إن كان التسلسل ممتنعا لزم أن تكون الحوادث حدثت عن تأثير وجودي قديم وحينئذ فيمكن حدوث العالم بدون تسلسل الحوادث عن تأثير قديم وهو المطلوب
وإن شئت أدخلت المقدمة الأولى في التقدير أيضا كما تقدم التنبيه عليه ن حتى يظهر الجواب على كل تقدير وعلى قول كل طائفة من نظار المسلمين إذ كان منهم من يقول : التأثير في المحدثات وجودي قديم ومنهم من يقول هو أمر عدمي ومنهم من يقول بتسلسل الآثار الحادثة
والدهري بنى حجته عل أنه لا بد من تأثير وجودي قديم وأنه حينئذ يلزم قدم الأثر
فيجاب على كل تقدير فيقال : التأثير إن كان عدميا بطلت المقدمة الأولى وجاز حدوث الحوادث بدون تأثير وجودي وإن كان وجوديا ـ وتسلسل الحوادث ممكن ـ أمكن حدوثه بآثار متسلسلة وبطل قولك بامتناع تسلسل الآثار وإن كان تسلسل الآثار ممتنعا لزالمسلم إما التأثير القديم وإما التأثير الحادث بالقدرة أو بالقدرة والمشيئة القديمة وحينئذ فالحوادث مشهودة فتكون صادرة عن تأثير قديم أو حادث وإذا جاز صدور الحوادث عن تأثير قديم أو حادث بطلت الحجة
وأصل هذا الكلام المسلم أنا نشهد حدوث الحوادث فلا بد لها من محدث هو المؤثر وإحداثه هو التأثير فالقول في إحداث هذه الحوادث والتأثير فيها كالقول في إحداث العالم والتأثر فيه
وهؤلاء الدهرية بنوا هذه الحجة على أنه لا بد من تأثير حادث فيفتقر إلى تأثير حادث كما بنوا الأولى على أنه لا بد من سبب حادث فمأخذ الحجتين من مشكاة التسلسل في الآثار : القائلون بقدم العالم والقائلون بحدوثه كما يجوزه طوائف من أهل الملل أو أكثر أهل الملل إذا أجيبوا على التقديرين وقيل لهالمسلم إن كان التسلسل جائزا بطلت هذه الحجة وتلك وإن لم يكن جائزا بطلت أيضا هذه وتلك كان هذا جوابا قاطعا
ولكن لفظ التسلسل فيه إجمال واشتباه كما في لفظ الدور فإن الدور يراد به : الدور القبلي وهو ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء ويراد به الدور المعي الاقتراني وهو جائز بصريح العقل واتفاق العقلاء ومن أطلق امتناع الدور فمراده الأول أو هو غالط في الإطلاق
ولفظ التسلسل يراد به التسلسل في المؤثرات وهو أن يكون للحادث فاعل وللفاعل فاعل وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء وهذا هو التسلسل الذي أمر التبي صلى الله عليه وسلم بأن يستعاذ بالله منه وأمر بالانتهاء عنه وأن يقول القائل : آمنت بالله ورسله
وهذا التسلسل في المؤثرات والفاعلين يقترن به تسلسل آخر وهو التسلسل في تمام الفعل والتأثير وهو نوعان : تسلسل في جنس الفعل وتسلسل في الفعل المعين فالأول ـ مثل أن يقال : لا يفعل الفاعل شيئا أصلا حتى يفعل شيئا معينا أو لا يحدث شيئا حتى يحدث شيئا أو لا يصدر عنه شيء حتى يصدر عنه شيء فهذا أيضا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء
وهذا هو الذي يصح أن يجعل مقدمة في دوام الفاعلية بأن يقال : كل الأمور المعتبرة في كونه فاعلا : إن كانت قديمة لزم قدم الفعل وإن حدث فيها شيء فالقول في حدوث ذلك الحادث كالقول في حدوث غيره فالأمور المعتبرة في حدوث ذلك الحادث : إن كانت قديمة لزم قدم الفعل وإن كانت محدثة لزم أن لا يحدث شيء من الأشياء حتى يحدث شيء
وهذا جمع بين النقيضين وقد يسمى هذا دورا ويسمى تسلسلا وهذا هو الذي أجاب عنه من أجاب بالمعارضة بالحوادث المشهودة
وجوابه أن يقال : أتعني بالأمور المعتبرة الأمور المعتبرة في جنس كونه فاعلا أم الأمور المعتبرة في فعل شيء معين ؟ أما الأول فلا يلزم من دوامها دوام فعل شيء من العالم وأما الثاني : فيجوز أن يكون كل ما يعتبر في حدوث المعين كالفلك وغيره حادثا ولا يلزم من حدوث شرط الحادث المعين هذا التسلسل بل يلزم منه التسلسل المتعاقب في الآثار وهو أن يكون قبل ذلك الحادث حادث وقبل ذلك الحادث حادث وهذا جائز عندهم وعند أئمة المسلمين وعلى هذا فيجوز أن يكون كل ما في العالم حادثا مع التزام هذا التسلسل الذي يجوزونه
وقد يراد بالتسلسل في حدوث الحادث العين أو في جنس الحوادث : أن يكون قد حدث مع الحادث تمام مؤثره وحدث مع حدوث تمام المؤثر وهلم جرا
وهذا أيضا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء وهو من جنس التسلسل في تمام التأثير
فقد تبين أن التسلسل إذا أريد به أن يحدث مع كل حادث حادث يقارنه يكون تما تأثيره مع الآخر حادث وهلم جرا فهذا ممتنع من جنس قول معمر في المعاني التسلسلة وإن أريد به أن يحدث قبل كل حادث حادث وهلم جرا فهذا فيه قولان وأئمة المسلمين وأئمة الفلاسفة يجوزونه كما أن التسلسل يراد به التسلسل في المؤثرات وفي تمام التأثير يراد به التسلسل المتعاقب شيئا بعد شيء ويراد به التسلسل المقارن شيئا مع شيء فقول إنها أيضا : إن المؤثر يستلزم أثره يراد به أن يكون عقبه فهذا هو الاستلزام المعروف عند جمهور العقلاء وعلى هذا فيمتنع أن يكون في العالم شيء قديم
والناس لهم في استلزام المؤثر أثره قولان :
فمن قال : إن الحادث يحدث في الفاعل بدون سبب حادث فإنه يقول : المؤثر التام لا يجب أن يكون أثره معه بل يجوز تراخيه ويقول : أن القادر المختار يرجع أحد مقدوريه بمجرد قدرته التي لم تزل أو بمجرد مشيئته التي لم تزل وإن لم يحدث عند وجود الحادث سبب
والقول الثاني : أن المؤثر التام يستلزم أثره لكن في معنى هذا الاستلزام قولين : أحدهما : أن يكون معه بحيث يكون زمان الأثر زمان المؤثر فهذا هو الذي تقوله المتفلسفة وهو معلوم الفساد بصريح العقل عند جمهور العقلاء
والثاني : أن يكون الأثر عقب تمام المؤثر وهذا يقر به جمهور العقلاء وهو يستلزم أن لا يكون في العالم شيء قديم بل كل ما فعله القديم الواجب بنفسه فهو محدث
وإن قيل : إنه لم يزل فعالا وإن قيل بدوام فاعليته فذلك لا يناقض حدوث كل ما سواه بل هو مستلزم لحدوث كل ما سواه فإن كل مفعول فهو محدث فكل ما سواه مفعول فهو محدث مسبوق بالعدم فإن المسبوق بغيره سبقا زمانيا لا يكون قديما والأثر المتعقب لمؤثره الذي زمانه عقب زمان تمام مؤثره ليس مقارنا له في الزمان بل زمنه متعقب لزمان تمام التأثير كتقدم بعض أجزاء الزمان على بعض وليس في أجزاء الزمان شيء قديم وإن كان جنسه قديما بل كل جزء من الزمان مسبوق بآخر فليس من التأثيرات المعينة تأثير قديم كما ليس من أجزاء الزمان جزء قديم
فمن تدبر هذه الحقائق وتبين له ما فيها من الاشتباه والالتباس : تبين له محارات أكابر النظار في هذه المهامه التي تحار فيها الأبصار والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
وحينئذ فيقال : الدهرية يزعمون أن حركات الفلك لا بداية لها ولا نهاية لا يجعلون لها آخرا تنتهي إليه فلا يصح اعتمادهم على أن هذه الحوادث متناهية من أحد الجانبين بل يلزمهم قطعا أن تكون الحركة الفلكية التي زعموا أنها لم تزل ولا تزال متفاضلة فدورات زحل عنهم لم تزل ولا تزال وكذلك دورات الشمس والقمر مع أن دورات القمر دورات بقدر دورات الشمس اثنتي عشرة مرة ودورات الشمس بقدر دورات زحل ثلاثين مرة فكل من هذين لا يتناهى في الماضي والمستقبل وهذا أقل من هذا بقدر متناه وهذا أزيد من هذا بقدر متناه فإذا كان الأقول من غيره متناهيا لزم أن يكون كل من الدورات متناهيا
وهذا الوجه لا يرد على من قال من أئمة الإسلام وأهل الملل بجواز حوادث لا تتناهى فإن أولئك يقولون بأن حركة الفلك لها ابتداء ولها انتهاء وأنه محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن وأنه ينشق وينفطر فتبطل حركة الشمس والقمر وكل واحد من دورات الفلك وكواكبه وشمسه وقمره له عندهم بداية ونهاية
الأقوال في مقارنة المعلول لعلته الثانية
قيل : يجب أن يقارن الأثر ولتأثيره بحيث لا يتأخر الأثر عن التأثير في الزمان فلا يتعقبه ولا يتراخى عنه وهذا قول هؤلاء الدهرية القائلين بأن العالم قديم عن موجب قديم وقولهم أفسد الأقوال الثلاثة وأعظمها تناقضا فإنه إذا كان الأثر كذلك لزم أن لا يحدث في العالم شيء فإن العلة التامة إذا كانت تستلزم مقارنة معلولها لها في الزمان وكان الرب علة تامة في الأزل - لزم أن يقارنه كل معلول وكل ما سواه معلول له : إما بواسطة وإما بغير واسطة فيلزم أن لا يحدث في العالم شيء
وأيضا فما يحدث من الحوادث بعد ذلك يفتقر إلى علة تامة مقارنة له فيلزم تسلسل علل أو تمام علل ومعلولات في آن واحد وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء وإن قدر أن الرب لم يكن علة تامة في الأزل بطل قولهم
فيقال له كأنت ألزمت مناظريك من أهل الكلام حدوث حادث بلا سبب حادث وذكرت أن هذا ممتنع بالضرورة وهذا هو المقام المعروف الذي استطالت به المتفلسفة الدهرية على مناظريهم من أهل الكلام المأخوذ في الأصل عن الجهمية والقدرية فيقال له أنت يلزمك ما هو أشد من هذا وهو حدوث الحوادث بلا فاعل وهو الذي ذكرت أنه ساقط بين السقوط وذلك أن الحوادث المشهودة أن قلت لا فاعل لها فقد لزمك هذا القول وإن قلت : لها فاعل قيل لالكافر أفعلها بعد أن لم تكن من غير حدوث شيء في ذاته ام لم يفعلها حتى حدث شيء في ذاته ؟
فإن قلت بالأول قيل لالكافر فهي دائمة أو لها ابتداء ؟ فإن قلت لها ابتداء فهذا قول منازعيك وإن قلت لا ابتداء لها فقد صارت الحوادث كلها تحدث عن فاعل من غير حدوث شيء فيه وقد قلت إنه لا يمكن أن يكن حال الفاعل في المفعول المحدث وقت الفعل هي بعينها حاله وقت عدم الفعل فيلزمك أن لا يكون حاله عند وجود حوادث الطوفان هي حاله عند وجود الحوادث التي قبله فإن الحوادث مختلفة فإن أمكن أن يكون حاله واحدا مع حدوث الحوادث المختلفة أمكن أن يكون حاله واحدا مع تجدد الحوادث لأن الحادث الثاني كالطوفان فيه من الأمور ما لم يكن له قبل ذلك نظير فتلك حوادث لا نظير لها ولا فرق بين إحداث هذا وإحداث غيره وإذا جعل المقتضي لذلك تغيرات تحدث في الفلك كان الكلام في حدوث تلك التغيرات العلوية كالكلام في حدوث التغيرات السفلية
وإن قلت : بل حدث أمر أوجب هذه الحوادث
قيل لالكافر الفاعل له : إن كان هو الأول عاد الإلزام جذعا وإن كان غيره لزمك حدوث الحوادث بلا فاعل وإن التزمت أنه ما فعلها حتى حدث فيه شيء فقد تركت قولك
وأيضا فالفاعل المستكمل لشروط الفعل إما أن يجوز حدوث المفعول عنه بعد أن لم يكن بلا سبب حادث وإما أن لا يجوز فغن جاز فهو قول منازعك الذي ادعيت أنه فاسد بالضرورة وإن لم يجز لزم أن يكون مفعوله مقارنا له لا يتأخر عنه منه شيء فلا يجوز أن يحدث عن الفاعل شيء كما تقوله أنت وإخوانك إنه علة تامة وموجب تام والعلة التامة لا يتأخر عنها معلولها ولا شيء من معلولها فإذا كل ما تأخر عن الأول ليس معلولا للعلة التامة ولا مفعولا للفاعل الأول ولا يجوز أن يكون فعلا لغيره إذ القول في ذلك الغير كالقول فيه فيلزم أن تكون الحوادث كلها حادثة بلا محدث
(درء تعارض العقل والنقل)