قراءة فى كتاب فضل علم السلف على الخلف
مؤلف الكتاب هو ابن رجب وأساس الكتاب كما قال المؤلف :
"والتنبيه على فضل علم السلف على علم الخلف "
أساس الكتاب خاطىء فلا فضل لعلم السلف على علم الخلف فإذا كان الأساس يعنى كبر الكم المعلوماتى فالعصور تتفاوت فيما بينها فى كم المعلومات فقد يكون الكم كبير فى عصر قديم وفى عصر حديث قد يكون أعظم
وإذا كان الأساس يعنى العلم الصحيح فالعلم الصحيح موجود فى كل عصر محفوظ فى الكعبة الحقيقية كما قال تعالى :
"إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"
ولا فضل لخلف على سلف ولا لسلف على خلف لأن فى كل عصر ثلة من المقربين وثلة من أصحاب اليمين كما قال تعالى:
"والسابقون السابقون أولئك المقربون فى جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الأخرين"
وقال :
"لأصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الأخرين"
ففى كل عصر يتواجد الصنفين ومن ثم لا تفاضل
وبين الرجل بعد ذلك انقسام العلم لنافع وضار فقال:
"قد ذكر الله تعالى في كتابه العلم تارة في مقام المدح وهو العلم النافع وتارة في مقام الذم وهو العلم الذي لا ينفع فأما الأول فمثل قوله تعالى قُل هَل يَستَوي الَّذينَ يَعلَمونَ وَالَّذينَ لا يَعلَمون وقوله شَهِدَ اللَهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلّا هُوَ وَالمَلائِكَة وَأُولوا العِلمَ قائِماً بِالقِسط وقوله وَقُل رَبِّ زِدني عِلماً وقوله إِنَّما يَخشى اللَهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ وما قص سبحانه من قصة آدم وتعليمه الأسماء وعرضهم على الملائكة وقولهم سُبحانَكَ لا عِلمَ لَنا إِلّا ما عَلَّمتَنا إِنَّكَ أَنتَ العَليمُ الحَكيم وما قصه سبحانه وتعالى من قصة موسى عليه السلام وقوله للخضر هَل أَتَّبِعُكَ عَلى أَن تُعَلِمَني مِمّا عُلِّمتَ رُشدا فهذا هو العلم النافع
وقد أخبر عن قوم أنهم أوتوا علماً ولم ينفعهم علمهم فهذا علم نافع في نفسه لكن صاحبه لم ينتفع به قال تعالى مَثَلُ الَّذينَ حُمِّلوا التَوراةَ ثُمَّ لَم يَحمِلوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحمِلُ أَسفارا وقال وَاِتلُ عَلَيهِم نَبَأَ الَّذي آتَيناهُ آياتِنا فَاِنسَلَخَ مِنها فَأَتبَعَهُ الشَيطانُ فَكانَ مِنَ الغاوينَ وَلَو شِئنا لَرَفَعناهُ بِها وَلَكِنَّهُ أَخلَدَ إِلى الأَرضِ وَإِتَّبَعَ هَواهُ وقال تعالى فَخَلَفَ مِن بَعدَهُم خَلفَ وَرِثوا الكِتابَ يَأخُذونَ عَرَضَ هذا الأَدنى وَيَقولونَ سَيُغفَرُ لَنا وَإِن يَأتِهِم عَرَضٌ مِثلُهُ يَأخُذوهُ أَلَم يُؤخَذ عَلَيهِم ميثاقُ الكِتابِ أَلّا يَقولوا عَلى اللَهِ إِلّا الحَقَّ وَدَرَسوا ما فيهِ وَالدارُ الآخِرَةُ خَيرٌ لِلَّذينَ يَتَّقون الآية وقال وَأَضَلَّهُ اللَهُ عَلى عِلمٍ على تأويل من تأول الآية على علم عند من أضله الله
وأما العلم الذي ذكره الله تعالى على جهة الذم له فقوله في السحر وَيَتَعَلَّمونَ ما يَضُرُّهُم وَلا يَنفَعُهُم وَلَقَد عَلِموا لَمَنِ اِشتَراهُ مالَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ وقوله فَلَمّا جاءَتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّناتِ فَرِحوا بِما عِندَهُم مِنَ العِلمِ وَحاقَ بِهِم ما كانوا بِهِ يَستَهزِئون وقوله تعالى يَعلَمونَ ظاهِراً مِنَ الحَياةِ الدُنيا وَهُم عَن الآخِرَةِ هُم غافِلون"
والخطأ هو أن الله مدح العلم النافع وذم العلم الضار مقولة مبنية على خطأ فالله يمدح أصحاب العلم الذين نفعوا أنفسهم أخرويا به ويذم أصحاب العلم الذين استعملوه استعمالا أضر بهم أخرويا فمثلا قال فى العمل بعلم السحر " وَلَقَد عَلِموا لَمَنِ اِشتَراهُ مالَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ"
علم كعلم الحروب كيف يتم تصنيفه هل هو علم نافع أم ضار ؟ بالقطع إذا استعملت الحرب فى رد العدوان فهو نافع للمسلمين دنيويا وأخرويا لأنهم طبقوا قوله تعالى "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم"
وأما إذا استخدمه الكفار فى الاعتداء فهو علم ضار بهم فالفارق بين النفع والضرر هو الاستخدام ولذا قال الملكين "إنما نحن فتنة فى تكفر" فالعلم ابتلاء أى اختبار إن استعمله الإنسان فى طاعة الله نفعه وإن استعمله فى عصيان الله أضره
ثم أورد المؤلف بعض ما جاء فى الروايات عن العلم النافع فقال:
"ولذلك جاءت السنة بتقسيم العلم إلى نافع وإلى غير نافع والاستعاذة من العلم الذي لا ينفع وسؤال العلم النافع ففي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها وخرجه أهل السنن من وجوه متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعضها ومن دعاء لا يسمع وفي بعضها أعوذ بك من هؤلاء الأربع وخرج النسائي من حديث جابر أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يقول اللهم إني أسألك علماً نافعاً وأعوذ بك من علم لا ينفع"
المستفاد من تلك الروايات هو طلب الحماية من الله من العلم غير النافع وهو العلم الذى يعصى به الله
ثم أورد المؤلف دعاء نفع العلم فقال:
" وخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علماً وخرج النسائي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وارزقني علماً تنفعني به"
وطبقا لهذا فالمسلم يطلب العلم الذى ينفعه أى يفيده فى دنياه وأخرته وهو العلم الذى يطيع الله به
ثم ذكر المؤلف الرواية التالية:
" وخرج أبو نعيم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم إنّا نسألك إيماناً دائماً فرب إيمان غير دائم وأسألك علماً نافعاً فرب علم غير نافع"
وتبعا لهذا فالمسلم يطلب العلم النافع المستمر الذى يجعله يطيع أحكام الله باستمرار
ثم أورد ابن رجب الرواية الآتية:
" وخرج أبو داود من حديث بُريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنَّ منَ البيان سحراً وإن من العلم جهلاً "
والمستفاد من القول أن الكلام منه خداع وهو السحر للضحك به على الناس عن طريق الوقيعة بينهم والسخرية منهم ونهب أموالهم أو هتك أعراضهم أو غير هذا كما أن العلم يصبح جهلا عندما يترك من يعلمه العمل به فى طاعة أحكام الله إلى العمل به فى طاعة شيطانه وهو هواه الضال
ثم ذكر الرجل الرواية :
"في مراسيل أبي داود عن زيد بن أسلم قال قيل يا رسول الله ما أعلمَ فلانا قال بم قالوا بأنساب الناس قال علم لا ينفع وجهالة لا تضر"
والقول خطأ فالعلم بالأنساب نافع فى الدنيا فى مسائل الميراث ومسائل الزواج فلولاه لضاعت أموال الناس ولولاه تزوج الرجال النساء المحرمات
ثم أورد ابن رجب الرواية الآتية:
"وخرجه أبو نعيم في كتاب رياض المتعلمين من حديث بقية عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة مرفوعا وفيه إنَّهم قالوا أعلم الناس بأنساب العرب وأعلم الناس بالشعر وبما اختلفت فيه العرب وزاد في آخره العلم ثلاثة ما خلاهن فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة: وهذا الإسناد لا يصح وبقية دَلَّسهُ عن غير ثقة، وآخر الحديث خرجه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا العلم ثلاثة ما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وفيه ضعف مشهور"
وبالقطع العلم الكثير منه فرض فتعلم علم الحساب واجب لمعرفة مواقيت الناس مثل عدة المطلقة الحامل وغير الحامل والأرملة وصيام القاتل ككفارة ولمعرفة مواعيد العمرة والحج وللحديث روايات أخرى يذكر فيها أربعة أمور وليس ثلاثة
وذكر الرجل ما يناقض كون النسب علم لا ينفع فجعله علم نافع فى صلة الأرحام فذكر الرواية التالية:
"حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم أخرجه الإمام احمد والترمذي وخرجه حميد بن زنجويه من طريق آخر عن أبي هريرة مرفوعا تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ثم انتهوا وتعلموا من العربية ما تعرفون به كتاب الله ثم انتهوا وتعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم انتهوا وفي إسناد روايته ابن لُهَيعة وخرج أيضاً من رواية نعيم بن أبي هند قال قال عمر: تعلموا من النجوم ما تهتدون به في بركم وبحركم ثم امسكوا وتعلموا من النسبة ما تصلون به أرحامكم وتعلموا ما يحل لكم من النساء ويحرم عليكم ثم انتهوا وروى مسعر عن محمد ابن عبد الله قال قال عمر بن الخطاب تعلموا من النجوم ما تعرفون به القبلة والطريق"
الرواية تطلب من المسلمين تعلم علوما نافعة تنفعهم فى حياتهم ويخص الرجل بالذكر علم النجوم لاهتداء به فى ظلمات البر والبحر والقبلة ثم يبين الرجل أن العلم بالنجوم منه علم يفيد الناس ومنه علم يضر الناس وهو علم التأثير ويريد الاعتقاد فى كون النجوم تؤثر فى حيوات الناس وهو قوله:
"وهذا محمول على علم التأثير لا علم التسيير فان علم التأثير باطل محرم وفيه ورد الحديث المرفوع ومن اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر خرجه أبو داود من حديث ابن عباس مرفوعا وخرج أيضاً من حديث قبيصة مرفوعاً العيافة والطِيَرة والطرق من الجبت والعيافة زجر الطير: والطرق الخط في الأرض"
ثم ذكر رواية مناقضة تنهى عن علم النجوم المرتبط بالقدر من ولادة وموت وزواج وغيره فقال:
"وقد ورد النهي عن الخوض في القدر وفي صحيحي ابن حبان والحاكم عن ابن عباس مرفوعاً لا يزال أمر هذه الأمة موافيا ومقاربا ما لم يتكلموا في الولدان والقدر وقد روي موقوفا ورجح بعضهم وقفه وخرج البيهقي من حديث ابن مسعود مرفوعاً إذا ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكر النجوم فأمسكوا وقد روي من وجوه متعددة في أسانيدها مقال وروي عن ابن عباس أنه قال لميمون بن مهران إياك والنظر في النجوم فإنها تدعو إلى الكهانة والقدر فإنه يدعو إلى الزندقة وإياك وشتم أحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فَيُكِبَّكَ اللَه في النار على وجهك وخرجه أبو نعيم مرفوعاً ولا يصح رفعه "
والنهى عن النظر فى النجوم ينافى قوله تعالى "وعلامات وبالنجم هم يهتدون"
ثم بين الرجل أن الجدال هو أحد الطرق نحو الضلال خاصة فى القدر فقال:
وقد أنكر ذلك السلف وورد في الحديث المرفوع في السنن ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل ثم قرأ ما ضَرَبوهُ لَكَ إِلّا جَدَلاً بَل هُم قَومٌ خَصِمون وقال بعض السلف إذا أراد الله بعبد شراً أغلق عنه باب العمل وفتح له باب الجدل"
والرجل هنا لا يفرق بين نوعين من الجدال احدهما فرض مطلوب وهو الجدال بالحسنى كما قال تعالى لنبيه(ص):
"وجادلهم بالتى هى أحسن"
كما يناقض قوله أيضا:
"ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن"
ثم بين الرجل أن المطلوب هو تفهيم الناس بالقول العادل السديد المختصر فقال:
"وقد كان النبي صلي الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصاراً ولهذا ورد النهي عن كثرة الكلام والتوسع في القيل والقال وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم أن اللَه لم يبعث نبيا إلا مبلغاً وأن تشقيق الكلام من الشيطان يعني أن النبي إنما يتكلم بما يحصل به البلاغ وأما كثرة القول وتشقيق الكلام فإنه مذموم وكانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم قصداً وكان يحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه وقال أن من البيان سحراً وإنما قاله في ذم ذلك لا مدحاً له كما ظن ذلك من ظنه ومن تأمل سياق ألفاظ الحديث قطع بذلك"
ثم ذكر ابن رجب الرواية التالية:
"وفي الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً أن اللَه ليبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها وفي المعنى أحاديث كثيرة مرفوعة وموقوفة على عمر وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم من الصحابة فيجب أن يعتقد أنه ليس كل من كثر بسطة للقول وكلامه في العلم كان أعلم ممن ليس كذلك"
وهو قول يبين أن تشعيب القول فى المسألة الواحدة تشعيبا هو تصعيب للأمر على الناس
وعاد المؤلف لمقولة الكتاب وهو ان الخلف لا يمكن أن يكونوا أعلم من السلف فقال:
"وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين انه أعلم ممن تقدم فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله ومنهم من يقول هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين وهذا يلزم منه ما قبله لأن هؤلاء الفقهاء المشهورين المتبوعين أكثر قولا ممن كان قبلهم فإذا كان من بعدهم أعلم منهم لاتساع قوله كان أعلم ممن كان أقل منهم قولا بطريق الأولى كالثوري والأوزاعي والليث وابن المبارك وطبقتهم وممن قبلهم من التابعين والصحابة أيضاً
فإن هؤلاء كلهم أقل كلاماً ممن جاء بعدهم وهذا تنقص عظيم بالسلف الصالح وإساءة ظن بهم ونسبته لهم إلى الجهل وقصور العلم ولا حول ولا قوة إلا باللَه ولقد صدق ابن مسعود في قوله في الصحابة أنهم أبر الأمة قلوباً وأعمقها علوماً وأقلها تكلفاً وروي نحوه عن ابن عمر أيضاً وفي هذا إشارة إلى أن من بعدهم أقل علوماً وأكثر تكلفاً
وقال ابن مسعوداً أيضاً إنكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه كثير خطباؤه فمن كثر علمه وقل قوله فهو الممدوح ومن كان بالعكس فهو مذموم وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن بالإيمان والفقه وأهل اليمن أقل الناس كلاماً وتوسعاً في العلوم لكن علمهم علم نافع في قلوبهم ويعبرون بألسنتهم عن القدر المحتاج إليه من ذلك وهذا هو الفقه والعلم النافع فأفضل العلوم في تفسير القرآن ومعاني الحديث والكلام في الحلال والحرام ما كان مأثوراً عن الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى أن ينتهي إلى أئمة الإسلام المشهورين المقتدى بهم الذين سميناهم فيما سبق"
والمقولة كما قلنا ناقدين قولة الرجل خاطئة ففى كل عصر نجد العلماء وطالبى العلم ومن يفهمون فهما متوسطا ومن يعلمون علما قليلا فلم يكن الصحابة المؤمنون كلهم منزلة واحدة فى العلم فكان القليل منهم علماء فى الدين كما قال تعالى:
" وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون"
فالعلماء طائفة قليلة وهم موجودون فى العديد من العصور وإن لم يكن العديد من العلماء متساوين فى العديد بالعصور لم يكن للدين قائمة وهو قوله تعالى :
" وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب"
ومن هنا جاءت المقولة " يَكْفِي التِّلْمِيذَ أَنْ يَكُونَ كَمُعَلِّمِهِ"
ويتناول ابن رجب مسألة تقليد السلف فيراه فريضة وهو كلام ملقى على عواهنه فليس السلف معصومين من الخطأ كما فى القولة المأثورة"كل ابن آدم خطاء" وإنما الوحى المنزل هو الذى ليس به خطأ ولو كان كلام السلف صحيحا كله فلماذا اختلفوا فى الكثير من المسائل والخلاف هو دليل على وجود الخطأ فواحد من الأقوال صحيح والباقى خطأ وفى هذا التقليد قال :
"فضبط ما روي عنه في ذلك أفضل العلوم مع تفهمه وتعقله والتفقه فيه وما حدث بعدهم من التوسع لا خير في كثير منه إلا أن يكون شرحاً لكلام يتعلق من كلامهم وأما ما كان مخالفاً لكلامهم فأكثره باطل أو لا منفعة فيه وفي كلامهم في ذلك كفاية وزيادة فلا يوجد في كلام من بعدهم من حق إلا وهو في كلامهم موجود بأوجز لفظ وأخصر عبارة ولا يوجد في كلام من بعدهم من باطل إلا وفي كلامهم ما يبين بطلانه لمن فهمه وتأمله ويوجد في كلامهم من المعاني البديعة والمآخذ الدقيقة مالا يهتدى إليه من بعدهم ولا يلم به فمن لم يأخذ العلم من كلامهم فاته ذلك الخير كله مع ما يقع في كثير من الباطل متابعة لمن تأخر عنهم ويحتاج من أراد جمع كلامهم إلى معرفة صحيحة من سقيمه وذلك بمعرفة الجرح والتعديل والعلل فمن لم يعرف ذلك فهو غير واثق بما ينقله من ذلك ويلتبس عليه حقه بباطله ولا يثق بما عنده من ذلك كما يرى من قل علمه بذلك لا يثق بما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف لجهله بصحيحه من سقيمه فهو لجهله يجوز أن يكون كله باطلا لعدم معرفته بما يعرف به صحيح ذلك وسقيمه"
ونلاحظ أن ابن رجب يناقض نفسه فيقول أن العلم ما كان عليه الصحابة فى الفقرة التالية:
"قال الأوزاعي العلم ما جاء به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما كان غير ذلك فليس بعلم: وكذا قال الإمام أحمد وقال في التابعين أنت مخير يعنى مخيرا في كتابته وتركه: وقد كان الزُهري يكتب ذلك وخالفه صالح بن كيسان ثم ندم على تركه كلام التابعين"
ولو كان كلامه صحيحا فقد أسس لدولة الفساد فما نسب للصحابة فيه اختلاف كثير ومشاحنات وضغائن كما فيه تفسيرات متناقضة فهل نحن ملزمون باتباع العلم الناتج عن الضغائن والشحناء والتناقضات ؟ بالقطع لا نحن ملزمون بشىء واحد كما قال تعالى "وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله" فالحكم وهو العلم هو فى كتاب الله وليس عند الناس حتى ولو كانوا مؤمنين مسلمين
ونجد الرجل يفرق بين السلف فيقول أن نأخذ بالسلف حتى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأما السلف بعدهم فلا يجب الأخذ إلا بعد دراسة وهو قوله:
"وفي زماننا يتعين كتابة كلام أئمة السلف المقتدى بهم إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد: وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة وحدث من انتسب إلى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم وهو أشد مخالفة لها لشذوذه عن الأئمة وانفراده عنهم بفهم يفهمه أو يأخذ مالم يأخذ به الأئمة من قبله"
وهى تفرقة غير مقبولة لأنه فى الفقرة قبلها قصر العلم على الصحابة فكيف يتم الأخذ بمن بعدهم ؟
بالقطع الكلام متناقض وهو فى كل الأحوال يخالف كتاب الله
ويحرم ابن رجب الدخول فى كلام المتكلمين والفلاسفة فيقول:
"فأما الدخول مع ذلك في كلام المتكلمين أو الفلاسفة فشر محض وقل من دخل في شيء من ذلك إلا وتلطخ ببعض أوضارهم كما قال أحمد لا يخلو من نظر في الكلام من أن يتجهم: وكان هو وغيره من أئمة السلف يحذرون من أهل الكلام وأن ذبوا عن السنة وأما ما يوجد في كلام من أحب الكلام المحدث واتبع أهله من ذم من لا يتوسع في الخصومات والجدال ونسبته إلى الجهل أو إلى الحشو أو إلى أنه غير عارف باللَه أو غير عارف بدينه فكل ذلك من خطوات الشيطان نعوذ باللَه منه ومما أحدث من العلوم الكلام في العلوم الباطنة من المعارف وأعمال القلوب وتوابع ذلك بمجرد الرأي والذوق أو الكشف وفيه خطر عظيم: وقد أنكره أعيان الأئمة كالإمام أحمد وغيره: وكان أبو سليمان يقول أنه لتَمُرُّ بي النكتةُ من نُكَتِ القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة وقال الجنيد علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة من لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في علمنا هذا: وقد اتسع الخرق في هذا الباب ودخل فيه قوم إلى أنواع الزندقة والنفاق ودعوى أن أولياء اللَه أفضل من الأنبياء أو أنهم مستغنون عنهم وإلى التنقص بما جاءت به الرسل من الشرائع: وإلى دعوى الحلول والاتحاد أو القول بوحدة الوجود وغير ذلك من أصول الكفر والفسوق والعصيان كدعوى الإباحة وحل محظورات الشرائع وأدخلوا في هذا الطريق أشياء كثيرة ليست من الدين في شيء فبعضها زعموا أنه يحصل به ترقيق القلوب كالغناء والرقص وبعضها زعموا أنه يراد لرياضة النفوس لعشق الصور المحرمة ونظرها وبعضها زعموا أنه لكسر النفوس والتواضع كشهرة اللباس وغير ذلك مما لم تأت به الشريعة وبعضه يصد عن ذكر اللَه وعن الصلاة كالغناء والنظر إلى المحرم وشابهوا بذلك الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً"
والرجل هنا لا يعقل كلام الله فإذا لم نعرف أقوال القوم فكيف يتم الرد عليها؟
ولو كلمنا من يصدق ابن رجب وهم كثرة للأسف بما هو معروف تاريخيا عندهم من تعلم لغة العدو "تعلم لغة يهود فإنى لا آمنهم على الكتاب" فهل يصدقون أم أنهم يتركون القول لاتباع ابن رجب وأمثاله؟
لا يمكن أن نرد على أخطاء وتناقضات قوم بدون معرفة كتبهم وما يقولون فيها
ويعود ابن رجب لنفس نغمة الكلام قائلا:
"فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أولا ثم الاجتهاد على الوقوف في معانيه وتفهمه ثانياً وفي ذلك كفاية لمن عقل وشغل لمن بالعلم النافع عني واشتغل
ومن وقف على هذا وأخلص القصد فيه لوجه الله عز وجل واستعان عليه أعانه وهداه ووفقه وسدده وفهمه وألهمه وحينئذ يثمر له هذا العلم ثمرته الخاصة به وهي خشية اللَه كما قال عز وجل إِنَّما يَخشى اللَهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ قال ابن مسعود وغيره كفى بخشية اللَه علما وكفى بالاغترار باللَه جهلا وقال بعض السلف ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم الخشية وقال بعضهم من خشي اللَهَ فهو عالم ومن عصاه فهو جاهل وكلامهم في هذا المعنى كثير جداً"
بالقطع لا يمكن لأحد من المسلمين أن يجادل فى اتباع الوحى ولكن الوحى نفسه هو من يأمرنا بالاطلاع على معتقدات الغير حتى نجادلهم بالحسنى بقوله تعالى"وجادلهم بالتى هى أحسن" والوحى هو من يطالبنا بإعداد وسائل القوة من علم الحرب وعلم المال وغير ذلك حتى نقدر على مواجهة الأعداء فيقول :
"وأعدوا لهم من استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم"
إذا مطلوب منا العلم بغير ما جاء به الوحى
وبين ابن رجب أن العلم النافع إذا أثمر يدل على معرفة الله ومعرفة أحكامه فقال:
"وسبب ذلك أن هذا العلم النافع يدل على أمرين أحدهما على معرفة اللَه وما يستحقه من الأسماء الحسنى والصفات العلى والأفعال الباهرة وذلك يستلزم إجلاله وإعظامه وخشيته ومهابته ومحبته ورجاءه والتوكل عليه والرضى بقضائه والصبر على بلائه والأمر الثاني المعرفة بما يحبه ويرضاه وما يكرهه ويسخطه من الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال فيوجب ذلك لمن علمه المسارعة إلى ما فيه محبة اللَه ورضاه والتباعد عما يكرهه ويسخطه: فإذا أثمر العلم لصاحبه هذا فهو علم نافع فمتى كان العلم نافعاً ووقر في القلب فقد خشع القلب للَّه وانكسر له وذل هيبة وإجلالا وخشية ومحبة وتعظيما ومتى خشع القبل للَّه وذل وانكسر له قنعت النفس بيسير الحلال من الدنيا وشبعت به فأوجب لها ذلك القناعة والزهد في الدنيا وكل ما هو فان لا يبقى من المال والجاه وفضول العيش الذي ينقص به حظ صاحبه عند اللَه من نعيم الآخرة وإن كان كريماً على اللَه كما قال ذلك ابن عمر وغيره من السلف وروي مرفوعا"
وبعد ذلك ذكر الرجل ما هو خارج على نصوص الوحى فبين أن النتيجة أن الله يعطى الصاحب سؤاله ويجيب الدعاء بقوله:
"وأوجب ذلك أن يكون بين العبد وبين ربه عز وجل معرفة خاصة فإن سأله أعطاه وإن دعاه أجابه كما قال في الحديث الإلهي ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه إلى قوله فلئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وفي رواية ولئن دعاني لأجيبنه وفي وصيته صلى اللَه عليه وسلم لابن عباس احفظ اللَه يحفظك احفظ اللَه تجده أمامك تعرف إلى اللَه في الرخاء يعرفك في الشدة"
وبالطبع هذا الكلام يتعارض مع الوحى فالله لا يعطى المسلم كل ما يسأله فى الدنيا بدليل أنه أعطى المسلمين ما لا يريدون من الجوع والخوف ونقص الثمرات والأنفس فقال :
""ولنبلونكم بشىء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين"
كما أن ليس كل دعاء المسلم مجاب فدعاء إبراهيم (ص)فى أبيه برحمته لم يجل ودعاء نوح(ص) فى ابنه لم يجب ودعاء محمد(ص) فى المشركين لم يجب وكذلك فى المنافقين كما قال تعالى :
"استغفر لهم أولا تستغفر إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله"
وبين ابن رجب مقولة المعرفة الخاصة بين العبد وربه فقال:
"فالشأن في أن العبد يكون بينه وبين ربه معرفة خاصة بقلبه بحيث يجده قريباً منه يستأنس به في خلوته ويجد حلاوة ذكره ودعائه ومناجاته وخدمته ولا يجد ذلك إلا من أطاعه في سره وعلانيته كما قيل لوهيب بن الورد يجد حلاوة الطاعة من عصى قال لا ولا من هم ومتى وجد العبد هذا فقد عرف ربه وصار بينه وبينه معرفة خاصة فإذا سأله أعطاه وإذا دعاه أجابه كما قالت شغوانة لفضيل والعبد لا يزال يقع في شدائد وكرب في الدنيا وفي البرزخ وفي الموقف فإذا كان بينه وبين ربه معرفة خاصة كفاه اللَه ذلك كله وهذا هو المشار إليه في وصية ابن عباس بقوله صلى الله عليه وسلم تعرف إلى اللَه في الرخاء يعرفك في الشدة وقيل لمعروف ما الذي هيجك إلى الانقطاع وذكر له الموت والقبر والموقف والجنة والنار فقال إن ملكا هذا كله بيده كانت بينك وبينه معرفة كفاك هذا كله فالعلم النافع ما عرف بين العبد وربه ودل عليه حتى عرف ربه ووحده وأنس به واستحى من قربه وعبده كأنه يراه
ولهذا قالت طائفة من الصحابة إن أول علم يرفع من الناس الخشوع وقال ابن مسعود إن أقواماً يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع وقال الحسن العلم علمان فعلم على اللسان فذلك حجة اللَه على ابن آدم وعلم في القلب فذلك العلم النافع "
ولا يوجد ما يسمى المعرفة الخاصة فالمعرفة عامة من خلال الوحى فمن عمل بها أثابه الله ولكن كما فى علمه هو ووجد العبيد العاملين حلاوتها كما يقول تعالى :
"ألا بذكر الله تطمئن القلوب"
وبين ابن رجب تقسيم للعلماء هو :
"وكان السلف يقولون أن العلماء ثلاثة عالم باللَه عالم بأمر اللَه وعالم باللَه ليس بعالم بأمره وعالم بأمر اللَه ليس بعالم باللَه وأكملهم الأول وهو الذي يخشى الله ويعرف أحكامه"
ثم بين الرجل الاستدلال بالعلم على الله فقال:
"فالشأن كله في أن العبد يستدل بالعلم على ربه فيعرفه فإذا عرف ربه فقد وجده منه قريباً ومتى وجده منه قريباً قربه إليه وأجاب دعاءه كما في الأثر الإسرائيلي ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فاتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء وكان ذو النون يردد هذه الأبيات بالليل:
اُطلُبوا لِأَنفُسِكُم مِثلَ ما وَجَدتُ أَنا
قَد وَجَدتُ لِي سَكَناً لَيسَ في هَواهُ عَنا
إِن بَعُدتُ قَرَّبَني أَو قَرُبتُ مِنهُ دَنا"ونجده يكرر الخطأ فى إجابة دعاء العبد العارف ليس كل دعاء المسلم مجاب فدعاء إبراهيم (ص)فى أبيه برحمته لم يجل ودعاء نوح(ص) فى ابنه لم يجب ودعاء محمد(ص) فى المشركين لم يجب وكذلك فى المنافقين كما قال تعالى :
"استغفر لهم أولا تستغفر إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله"
وبين الرجل أن أصل العلم الخوف من عقاب الله والعلم بأحكامه فقال:
"وكان الإمام أحمد رحمه اللَه يقول عن معروف معه أصل العلم خشية اللَه: فأصل العلم باللَه الذي يوجب خشيته ومحبته والقرب منه والأنس به والشوق إليه ثم يتلوه العلم بأحكام اللَه وما يحبه ويرضاه من العبد من قول أو عمل أو حال أو اعتقاد: فمن تحقق بهذين العلمين كان علمه علماً نافعاً وحصل له العلم النافع والقلب الخاشع والنفس القانعة والدعاء المسموع ومن فاته هذا العلم النافع وقع في الأربع التي استعاذ منها النبي صلي الله عليه وسلم وصار علمه وبالا وحجة عليه فلم ينتفع به لأنه لم يخشع قلبه لربه ولم تشبع نفسه من الدنيا بل ازداد عليها حرصاً ولها طلباً ولم يسمع دعاؤه لعدم امتثاله لأوامر ربه وعدم اجتنابه لما يسخطه ويكرهه"
ثم كرر الرجل الخطأ بأن كل علم خارج الكتاب والسنة غير نافع وإن كان أصاب فى ذكر علامات أهل العلم النافع فقال:
"هذا إن كان علمه علماً يمكن الانتفاع به وهو المتلقى عن الكتاب والسنة فإن كان متلقى من غير ذلك فهو غير نافع في نفسه ولا يمكن الانتفاع به بل ضره أكثر من نفعه وعلامة هذا العلم الذي لا ينفع أن يكسب صاحبه الزهو والفخر والخيلاء وطلب العلو والرفعة في الدنيا والمنافسة فيها وطلب مباهاة العلماء ومماراة السفهاء وصرف وجوه الناس إليه وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم إن من طلب العلم لذلك فالنار النار وربما ادعى بعض أصحاب هذه العلوم معرفة الله وطلبه والأعراض عما سواه وليس غرضهم بذلك إلا طلب التقدم في قلوب الناس من الملوك وغرهم وإحسان ظنهم بهم وكثرة اتباعهم والتعظم بذلك على الناس
وعلامة ذلك إظهار دعوى الولاية كما كان يدعيه أهل الكتاب وكما ادعاه القرامطة والباطنية ونحوهم وهذا بخلاف ما كان عليه السلف من احتقار نفوسهم وازدرائها باطناً وظاهراً وقال عمرو من قال إنه عالم فهو جاهل ومن قال إنه مؤمن فهو كافر ومن قال هو في الجنة فهو في النار ومن علامات ذلك عدم قبول الحق والانقياد إليه والتكبر على من يقول الحق خصوصاً إن كان دونهم في أعين الناس والإصرار على الباطل خشية تفرق قلوب الناس عنهم بإظهار الرجوع إلى الحق وربما أظهروا بألسنتهم ذم أنفسهم واحتقارها على رؤوس الأشهاد ليعتقد الناس فيهم أنهم عند أنفسهم متواضعون فيمدحون بذلك وهو من دقائق أبواب الرياء كما نبه عليه التابعون فمن بعدهم من العلماء ويظهر منهم من قبول المدح واستجلابه مما ينافي الصدق والإخلاص فإن الصادق يخاف النفاق على نفسه ويخشى على نفسه من سوء الخاتمة فهو في شغل شاغل عن قبول المدح واستحسانه فلهذا كان من علامات أهل العلم النافع أنهم لا يرون لأنفسهم حالا ولا مقاما ويكرهون بقلوبهم التزكية والمدح ولا يتكبرون على أحد قال الحسن إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بدينه المواظب على عبادة ربه وفي رواية عنه قال الذي لا يحسد من فوقه ولا يسخر ممن دونه ولا يأخذ على علم علَّمَه اللَه أجراً وهذا الكلام الأخير قد روي معناه عن ابن عمر من قوله وأهل العلم النافع كلما ازدادوا في هذا العلم ازدادوا تواضعاً للَّه وخشية وانكساراً وذلا"
بالقطع لا يمكن لأحد من المسلمين أن يجادل فى اتباع الوحى ولكن الوحى نفسه هو من يأمرنا بالاطلاع على أصول المهن المختلفة ومعتقدات الغير حتى نجادلهم بالحسنى بقوله تعالى"وجادلهم بالتى هى أحسن" والوحى هو من يطالبنا بإعداد وسائل القوة من علم الحرب وعلم المال وغير ذلك حتى نقدر على مواجهة الأعداء فيقول :
"وأعدوا لهم من استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم"
إذا مطلوب منا العلم بغير ما جاء به الوحى
وأتى الرجل بكلام يعتبرا جنونا مثل القول التالى:
"قال بعض السلف ينبغي للعالم أن يضع التراب على رأسه تواضعاً لربه فانه كلما ازداد علماً بربه ومعرفة به ازداد منه خشية ومحبة وازداد له ذلا وانكساراً "
فوضع التراب على الرأس ليس تواضعا وإنما مخالفة لأمر الله بعدم إيذاء النفس فالتواضع يكون بطاعة الله وليس بمخالفته فليس فى أى مكان من الوحى نص يبيح هذا الفعل الجنونى وهو وضع التراب على الرأس
ووضح المؤلف صفات من علمه غير نافع فقال:
"وأما من علمه غير نافع فليس له شغل سوى التكبر بعلمه على الناس وإظهار فضل علمه عليهم ونسبتهم إلى الجهل وتَنَقُّصهم ليرتفع بذلك عليهم وهذا من أقبح الخصال وأرداها وربما نسب من كان قبله من العلماء إلى الجهل والغفلة والسهو فيوجب له حب نفسه وحب ظهورها إحسان ظنه بها وإساءة ظنه بمن سلف وأهل العلم النافع على ضد هذا يسيؤون الظن بأنفسهم ويحسنون الظن بمن سلف من العلماء ويقرون بقلوبهم وأنفسهم بفضل من سلف عليهم وبعجزهم عن بلوغ مراتبهم والوصول إليها أو مقاربتها وما أحسن قول أبي حنيفة وقد سئل عن علقمة والأسود أيهما أفضل فقال واللَه ما نحن بأهل أن نذكرهم فكيف نفضل بينهم وكان ابن المبارك إذا ذكر أخلاق من سلف ينشد:
لا تُعرِض بِذِكرِنا مَع ذِكرِهِم لَيسَ الصَحيحُ إِذا مَشى كَالمُقعَدِ
ومن علمه غير نافع إذا رأى لنفسه فضلا على من تقدمه في المقال وتشقق الكلام ظن لنفسه عليهم فضلا في العلوم أو الدرجة عند اللَه لفضل خص به عمن سبق فاحتقر من تقدمه واجترأ عليه بقلة العلم ولا يعلم المسكين أن قلة كلام من سلف إنما كان ورعا وخشية للَّه ولو أراد الكلام وإطالته لما عجز عن ذلك كما قال ابن عباس لقوم سمعهم يتمارون في الدين أما علمتم إن للَّه عباداً أسكتهم خشية اللَّه من غير عي ولا بكم وأنهم لهم العلماء والفصحاء والطلقاء والنبلاء العلماء بأيام اللَه غير أنهم إذا تذكروا عظمة اللَه طاشت عقولهم وانكسرت قلوبهم وانقطعت ألسنتهم حتى إذا استفاقوا من ذلك يسارعون إلى اللَه بالأعمال الزاكية يعدون أنفسهم من المفرطين وأنهم لأكياس أقوياء ومع الظالمين والخاطئين وأنهم لأبرار برآء إلا أنهم لا يستكثرون له الكثير ولا يرضون له بالقليل ولا يدلون عليه بالأعمال هم حيث ما لقيتهم مهتمون مشفقون وجلون خائفون خرجه أبو نعيم وغيره "
وذكر ابن رجل رواية تقول:
"وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي إمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحياء والعيُّ شعبتان من الإيمان والبذاء والبيان شعبتان من النفاق وحسنه الترمذي"

وهنا العى من الإيمان ولكن فى الرواية التالية جعله من الشيطان والمراد الكفر فقال:
"وخرجه الحاكم وصححه وخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم البيان من الله والعي من الشيطان وليس البيان بكثرة الكلام ولكن البيان الفصل في الحق وليس العي قلة الكلام ولكن من سفه الحق"
ثم عاد وذكر أقوال تبين كون العى مباح مطلوب فقال:
"وفي مراسيل محمد بن كعب القرظي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاث ينقص بهن العبد في الدنيا ويزداد بهن في الآخرة ما هو أعظم من ذلك الرحم والحياء وعي اللسان قال عون بن عبد اللَه ثلاث من الإيمان الحياء والعفاف والعي عي اللسان لا عي القلب ولا عي العمل وهن مما يزددن في الآخرة وينقصن في الدنيا وما يزددن في الآخرة أكبر مما ينقصن من الدنيا وروي هذا مرفوعا من وجه ضعيف"
وأكمل كلامه عن صفات العلماء فقال:
"وقال بعض السلف إن كان الرجل ليجلس إلى القوم فيرون أن به عيا وما به من عي إنه لفقيه مسلم: فمن عرف قدر السلف عرف أن سكوتهم عما سكتوا عنه من ضروب الكلام وكثرة الجدال والخصام والزيادة في البيان على مقدار الحاجة لم يكن عياً ولا جهلا ولا قصوراً وإنما كان ورعا وخشية للَّه واشتغالا عما لا ينفع بما ينفع وسواء في ذلك كلامهم في أصول الدين وفروعه وفي تفسير القرآن والحديث وفي الزهد والرقائق والحكم والمواعظ وغير ذلك مما تكلموا فيه فمن سلك سبيلهم فقد اهتدى ومن سلك غير سبيلهم ودخل في كثرة السؤال والبحث والجدال والقيل والقال فإن اعترف لهم بالفضل وعلى نفسه بالنقص كان حاله قريباً وقد قال إياس بن معاوية ما من أحد لا يعرف عيب نفسه إلا وهو أحمق قيل له فما عيبك قال كثرة الكلام وإن ادعى لنفسه الفضل ولمن سبقه النقص والجهل فقد ضل ضلالا مبيناً وخسر خسراناً عظيما وفي الجملة ففي هذه الأزمان الفاسدة إما أن يرضى الإنسان لنفسه أن يكون عالماً عند اللَه ولا يرضى إلا بأن يكون عند أهل الزمان عالماً فإن رضي بالأول فليكتف بعلم اللَه فيه ومن كان بينه وبين اللَه معرفة اكتفى بمعرفة اللَه إياه: ومن لم يرض إلا بأن يكون عالماً عند الناس دخل في قوله صلى الله عليه وسلم من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه فليتبوأ مقعده من النار"
ذك ذكر الرجل الرواية التالية :
"قال وهيب بن الورد رب عالم يقول له الناس عالم وهو معدود عند اللَه من الجاهلين وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إن أول من تسعر به النار ثلاثة أحدهم من قرأ القرآن وتعلم العلم ليقال هو قارىء وهو عالم ويقال له قد قيل ذلك ثم أمر به فيسحب على وجهه حتى ألقي في النار "
الحديث لم يقله النبى(ص) فالنار لا يدخلها أول من يدخلها ثلاثة بل الكفار يساقون جميعا للنار كما قال تعالى ""وسيق الذين كفروا إلى الجنة زمرا" وقال " ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا"
ووضح الرجل فى زمن الكفر لا يمكن للعالم أن يكون قاضيا لأنه سيحكم بالظلم فقال :
"فإن لم تقنع نفسه بذلك حتى تصل إلى درجة الحكم بين الناس حيث كان أهل الزمان لا يعظمون من لم يكن كذلك ولا يلتفتون إليه فقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير وانتقل من درجة العلماء إلى درجة الظلمة
ولهذا قال بعض السلف لما أريد على القضاء فأباه إنما تعلمت العلم لأحشر به مع الأنبياء لا مع الملوك فإن العلماء يحشرون مع الأنبياء والقضاة يحشرون مع الملوك ولا بد للمؤمن من صبر قليل حتى يصل به إلى راحة طويلة فإن جزع ولم يصبر فهو كما قال ابن المبارك من صبر فما أقل ما يصبر ومن جزع فما أقل ما يتمتع: وكان الإمام الشافعي رحمه اللَه ينشد:
يا نَفسُ ما هِيَ إِلّا صَبرُ أَيّامِ كَأَنَّ مُدَّتَها أَضغاثُ أَحلامِ
يا نَفسُ جوزي عَنِ الدُنيا مُبادِرَةً وَخَلِّ عَنها فَإِنَّ العَيشَ قُدامي
فنسأل اللَه تعالى علماً نافعاً ونعوذ به من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع: ومن دعاء لا يسمع: اللهم إنّا نعوذ بك من هؤلاء الأربع
ووضح ابن رجب أن قسوة قلوبهم أوجبت لأهل الكتاب خصلتين مذمومتين إحداهما تحريف الكلم من بعد مواضعه والثانية نسيانهم حظاً مما ذكروا به فقال :
"فصل ليتدبر ما ذم اللَه به أهل الكتاب من قسوة القلوب بعد إيتائهم الكتاب ومشاهدتهم الآيات كإحياء القتيل المضروب ببعض البقرة ثم نهينا عن التشبه بهم في ذلك فقيل لنا" أَلَم يَأنِ لِلَّذينَ آمَنوا أَن تَخشَعَ قلوبُهُم لِذِكرِ اللَهِ وَما نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكونوا كَالَّذينَ أوتوا الكِتابَ مِن قَبلُ فَطالَ عَلَيهِمُ الأَمدُ فَقَسَت قلوبُهُم وَكَثيرٌ مِنهمُ فاسِقون" وبين في موضع أخر سبب قسوة قلوبهم فقال سبحانه فَبِما نَقضِهِم ميثاقَهُم وَجَعَلنا قُلوبَهُم قاسِيَة فأخبر أن قسوة قلوبهم كان عقوبة لهم على نقضهم ميثاق اللَه وهو مخالفتهم لأمره وارتكابهم لنهيه بعد أن أخذ عليهم مواثيق اللَه وعهوده أن لا يفعلوا ذلك ثم قال تعالى" يُحَرِّفونَ الكَلِمَ عَنِ مَواضِعِه وَنَسوا حَظّاً مِمّا ذُكِّروا بِهِ"
فذكر أن قسوة قلوبهم أوجبت لهم خصلتين مذمومتين إحداهما تحريف الكلم من بعد مواضعه والثانية نسيانهم حظاً مما ذكروا به والمراد تركهم وإهمالهم نصيباً مما ذكروا به من الحكمة والموعظة الحسنة فنسوا ذلك وتركوا العمل به وأهملوه
وهذان الأمران موجودان في الذين فسدوا من علمائنا لمشابهتهم لأهل الكتاب: أحدهما تحريف فإن من تفقه لغير العمل يقسو قلبه فلا يشتغل بالعمل بل بتحريف الكلم وصرف ألفاظ الكتاب والسنة عن مواضعها والتلطف في ذلك بأنواع الحيل اللطيفة من حملها على مجازات اللغة المستبعدة ونحو ذلك والطعن في ألفاظ السنن حيث لم يمكنهم الطعن في ألفاظ الكتاب ويذمون من تمسك بالنصوص وأجراها على ما يفهم منها ويسمونه جاهلا أو حسوداً وهذا يوجد في المتكلمين في أصول الديانات وفي فقهاء الرأي وفي صوفية الفلاسفة والمتكلمين والثاني نسيان حظ مما ذكروا به من العلم النافع فلا تتعظ قلوبهم بل يذمون من تعلم ما يبكيه وبرق به قلبه ويسمونه قاصاً"
والكلام خاطىء فقسوة القلب فى الآية التى ذكرها لم تذكر تحريفا ولا نسيانا وإن كانت قسوة القلب يخرج منها كل فعل خاطىء
وذكر المؤلف أن ثمرات العلوم تدل على شرفها فقال:
"ونقل أهل الرأي في كتبهم عن بعض شيوخهم أن ثمرات العلوم تدل على شرفها فمن اشتغل بالتفسير فغايته أن يقص على الناس ويذكرهم ومن اشتغل برأيهم وعلمهم فإنه يفتي ويقضي ويحكم ويدرس وهؤلاء لهم نصيب من الذين يَعلَمونَ ظاهِراً مِنَ الحَياةِ الدُنيا وَهُم عَنِ الآخِرَةِ غافِلونَ والحامل لهم على هذا شدة محبتهم للدنيا وعلوها "
والخطأ هنا ان الاشتغال برأى الناس وعلمهم دليل على العلم الضار وهو كلام خاطىء فلابد للمسلم ان يعرف آراء الناس وما عندهم ليجادلهم بالحق فلو كان جاهلا بما يقولون فكيف سيفند حججهم ويضعف رأيهم؟
هذا القول خطأ كرره عدة مرات مخالفا قوله تعالى"وجادلهم بالتى أحسن"