إفساد الاعتراض الثالث قال أبو محمد رضي الله عنه يقال لمن قال لو كان للأجسام محدث لم يخل من أحد ثلاثة أوجه أما أن يكون مثلها من جميع الوجوه أو من بعض الوجوه لا من كلها أو خلافها من جميع الوجوه إلى انقضاء كلامهم بل هو تعالى خلافها من جميع الوجوه وإدخالكم على هذا الوجه أنه حقيقة الضد والنقيض والضد لا يفعل ضده كما لا تفعل النار التبريد إدخال فاسد لأن الباري تعالى لا يوصف بأنه ضد لخلقه لأن الضد هو ما حمل التضاد والتضاد هو اقتسام الشيئين طرفي البعد تحت جنس واحد فإذا وقع أحد الضدين ارتفع الآخر وهذا الوصف بعيد عن الباري تعالى وإنما التضاد كالخضرة والبياض اللذين يجمعهما اللون أو الفضيلة والرذيلة اللتين يجمعهما الكيفية والخلق ولا يكون الضدان الأعرضين تحت جنس واحد ولا بد وكل هذا منفي عن الخالق عز و جل فبطل بالضرورة أن يكون عز و جل ضدا لخلقه وأيضا فإن قولهم لو كان خلافا لخلقه من جميع الوجوه لكان ضدا لهم قول فاسد إذ ليس كل خلاف ضدا فالجوهر خلاف العرض من كل وجه حاشا الحدوث فقط وليس ضدا له ويقال أيضا لمن قال هذا القول هل تثبت فاعلا وفعلا على وجه من الوجوه أو تنفي أن يوجد فاعل وفعل البتة فإن نفى الفاعل والفعل البتة كابر العيان لإنكاره الماشي والقائم والقاعد والمتحرك والساكن ومن دفع بهذا كان في نصاب من لا يكلم وإن أثبت الفعل والفاعل فيما بيننا قيل له هل بفعل الجسم إلا الحركة والسكون فلا بد من نعم والحركة والسكون خلاف الجسم وليس ضدا له إذ ليسامعه تحت جنس واحد أصلا وإنما يجمعها وإياه الحدوث فقط فلو كان كل خلاف ضدا لكان الجسم فاعلا لضده وهو الحركة أو السكون وهذا هو نفس ما أبطلوا فصح بالضرورة أنه ليس كل خلاف ضدا وصح أن الفاعل يفعل خلافه ولا بد من ذلك فبطل اعتراضهم والحمد لله رب العالمين
إفساد الاعتراض الرابع قال أبو محمد رضي الله عنه ويقال لمن قال لا يخلو من أن يكون محدث الأجسام أحدثها لإحراز منفعة أو لدفع مضرة أو طباعا أو لا لشيء من ذلك إلى انقضاء كلامهم
أما الفعل لإحراز منفعة أو لدفع مضرة فإنما يوصف به المخلوقون المختارون
وأما فعل الطباع فإنما يوصف به المخلوقون غير المختارين وكل صفات المخلوقين فهي منفية عن الله تعالى الذي هو الخالق لكل ما دونه
أما القسم الثاني وهو أنه فعل لا لشيء من ذلك فهذا هو قولنا ثم نقول لمن قال أن الفعل لا لشيء من ذلك أمر غير معقول ماذا تعني بقولك غير معقول أتريد أنه لا يعقل حسا أو مشاهدة أم تقول أنه لا يعقل استدلالا فإن قلت إنه لا يعقل حسا ومشاهدة قلنا لك صدقت كما أن أزلية الأشياء لا نعقل حسا ومشاهدة وإن قلت أنه لا يعقل استدلالا كان ذلك دعوى منك مفتقرة إلى دليل والدعوى إذا كانت هكذا فهي ساقطة فالاستدلال بها ساقط فكيف والفعل لا لشيء من ذلك متوهم ممكن غير داخل في الممتنع وما كان هكذا فالمانع منه مبطل والقول به يعقل فسقط هذا الاعتراض ثم نقول لما كان الباري تعالى بالبراهين الضرورية خلافا لجميع خلقه من جميع الوجوه كان فعله خلافا لجميع أفعال خلقه من جميع الوجوه وجميع خلقه لا نفعل إلا طباعا أو لاجتلاب منفعة أو لدفع مضرة فوجب أن يكون فعله تعالى بخلاف ذلك وبالله التوفيق
إفساد الاعتراض الخامس قال أبو محمد رضي الله عنه ويقال لمن قال إن ترك الفاعل أن يفعل الأجسام لا يخلو من أن يكون جسما أو عرضا إلى منتهى كلامهم إن هذه قسمة فاسدة بينة العوار وذلك أن الجسم هو الطويل العريض العميق وترك الفعل ليس طويلا ولا عريضا ولا عميقا فترك الفعل من الله تعالى للجسم والعرض ليس جسما والعرض هو المحمول
في الجسم وترك فعل الله تعالى للجسم والعرض ليس محمولا فليس عرضا فترك فعل الله تعالى للجسم والعرض ليس هو جسما ولا عرضا وإنما هو عدم والعدم ليس معنى ولا هو شيئا وترك الله تعالى للفعل ليس فعلا البتة بخلاف صفة خلقة لأن الترك من المخلوق للفعل فعل برهان ذلك أن ترك المخلوق للفعل لا يكون إلا بفعل آخر منه ضرورة كتارك الحركة لا يكون إلا بفعل السكون وتارك الأ كل لا يكون إلا باستعمال آلات الأكل في مقاربة بعضها بعضا أو في مباعدة بعضها بعضا وبتعويض الهواء وغيره من الشيء المأكول وكتارك القيام لا يكون إلا باشتغاله بفعل آخر من قعود أو غيره فصح أن فعل الباري تعالى بخلاف فعل خلقه وأن تركه للفعل ليس فعلا أصلا فبطل استدلالهم وبالله التوفيق
قال أبو محمد رضى الله عنه فإذ قد بطل جميع ما تعلقوا به ولم يبق لهم شغب أصلا بعون الله وتأييده فنحن مبتدئون بتأييده عز و جل في إيراد البراهين الضرورية على إثبات حدوث العالم بعد أن لم يكون وتحقيق أن له محدثا لم يزل لا إله إلا هو برهان أول قال أبو محمد رضي الله عنه فنقول وبالله التوفيق إن كل شخص في العالم وكل عرض في شخص وكل زمان فكل ذلك متناه ذو أول نشاهد ذلك حسا وعيانا لأن تناهي الشخص ظاهر بمساحته بأول جرمه وآخره وأيضا بزمان وجوده وتناهي العرض المحمول ظاهر بين بتناهي الشخص الحامل له وتناهي الزمان موجود باستئناف ما يأتي منه بعد الماضي وفناء كل وقت بعد وجوده واستئناف آخر يأتي بعده إذ كل زمان فنهايته الآن وهو حد الزمانين فهو نهاية الماضي وما بعده ابتداء للمستقبل وهكذا أبدا يفنى زمان ويبتدئ آخر وكل جملة من جمل الزمان فهي مركبة من أزمنة متناهية ذات أوائل كما قدمنا وكل جملة أشخاص فهي مركبة من أجزاء متناهية بعددها وذوات أوائل كما قدمنا وكل مركب من أجزاء متناهية ذات أوائل فليس هو شيئا غير أجزائه إذ الكل ليس هو شيئا غير الأجزاء التي ينحل إليها وأجزاؤه متناهية كما بينا ذات أوائل فالجمل كلها بلا شك متناهية ذات أوائل والعالم كله إنما هو أشخاصه ومكانه وأزمانها ومحمولانها ليس العالم كله شيئا غير ما ذكرناه وأشخاصه ومكانه وأزمانها ومحمولانها ذوات أوائل كما ذكرنا فالعالم كله متناه ذو أول ولا بد فإن كانت أجزاؤه كلها متناهية ذات أول بالمشاهدة والحس وكان هو غير ذي أول وقد أثبتنا بالضرورة والعقل والحس أنه ليس هو شيئا غير جزائه فهو ذو أول لا ذو أول وهذا عين المحال ويجب من ذلك أيضا أن لأجزائه أوائل محسوسة وأجزاؤه ليست غيره وهو غير ذي أول فأجزاؤه إذن لها أول ليس لها أول وهذا محال وتخليط فصح بالضرورة أن للعالم أولا إذ كل أجزائه لها أول وليس هو شيئا غير أجزائه وبالله تعالى التوفيق برهان ثان قال أبو محمد رضي الله عنه فنقول كل موجود بالفعل فقد حصره العدد وأحصته طبيعته ومعنى الطبيعة وحدها هو أن تقول الطبيعة هي القوة التي في الشيء فتجري بها كيفيات ذلك الشيء على ما هي عليه وإن أوجزت قلت هي قوة في الشيء يوجد بها على ما هو عليه وحصر العدد وإحصاء الطبيعة نهاية صحيحة إذ ما لا نهاية له فلا إحصاء ولا حصر له إذ ليس معنى الحصر والإحصاء الأخم ما بين طرفي المحصى المحصور والعالم موجود بالفعل وكل محصور بالعدد محصي بالطبيعة فهو ذو نهاية فالعالم كله ذو نهاية وسواء في ذلك ما وجد في مدة واحدة أو مدد كثيرة إذ ليست تلك المدد إلا مدة محصاة إلى جنب مدة محصاة فهي مركبة من مدد محصاة وكل مركب من أشياء فهو تلك الأشياء التي ركب منها فهي كلها مدد محصاة كما قدمنا في الدليل الأول فصح من كل ذلك أن ما لا نهاية له فلا سبيل إلى وجوده بالفعل وما لم يوجد إلا بعد ما لا نهاية له فلا سبيل إلى وجوده أبدا لأن وقوع البعدية فيه هو وجود نهاية له وما لا نهاية له فلا بعد له فعلى هذا لا يوجد شيء بعد شيء أبد الأبد والأشياء كلها موجودة بعضها بعد بعض فالأشياء كلها ذات نهاية وهذان الدليلان قد نبه الله تعالى عليهما وحصرهما بحجته البالغة إذ يقول وكل شيء عنده بمقدار برهان ثالث قال أبو محمد رضي الله عنه ما لا نهاية له فلا سبيل إلى الزيادة فيه إذ معنى الزيادة إنما هو أن تضيف إلى ذي النهاية شيئا من جنسه يزيد ذلك في عدده أو في مساحته فإن كان الزمان لا أول له يكون به متناهيا في عدده الآن فأذن كل ما زاد فيه ويزيد مما يأبى من الأزمنة منه فإنه لا يزيد ذلك في عدد الزمان شيئا وفي شهادة الحس أن كل ما وجد من الأعوام على الأبد إلي زماننا هذا الذي هو وقت ولاية هشام المعتمد بالله هو أكثر من كل ما وجد من الأعوام على الأبد إلى وقت هجرة رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن لم يكن هذا صحيحا فيجب إذن أنه إذا دار زحل دورة واحدة في كل ثلاثين سنة وزحل لم يزل يدور دار الفلك الأكبر في تلك الثلاثين سنة إحدى عشرة الف دورة غيرة خمسين دورة والفلك لم يزل يدور وإحدى عشرة ألف غير خمسين دورة أكثر من دورة واحدة بلا شك فإذن ما لا نهاية له أكثر مما لا نهاية له بنحو إحدى عشرة ألف مرة وهذا محال لما قدمنا ولأن ما لا نهاية له فلا يمكن البتة أن يكون عدد أكثر منه بوجه من الوجوه فوجبت في الزمان من قبل ابتدائه ضرورة ولا مخلص منها ويجب أيضا من ذلك أن الحس يوجب ضرورة أن أشخاص الإنس مضافة إلى أشخاص الخيل أكثر من أشخاص الإنس مفردة عن أشخاص الخيل ولو كانت الأشخاص لا نهاية لها لوجب أن ما لا نهاية له أكثر مما لا نهاية له وهذا محال ممتنع لا يتشكل في العقل ولا يمكن وأيضا فلا شك في أن الزمان مذ كان إلى وقت الهجرة جزء للزمان مذ كان إلى وقتنا هذا وبلا شك أيضا في أن الزمان مذ كان إلى وقتنا هذا كل للزمان مذ كان إلى وقت الهجرة ولما بعده إلى وقتنا هذا فلا يخلو الحكم في هذه القضية من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها إما أن يكون الزمان مذ كان موجودا إلى وقتنا هذا أكثر من الزمان مذ كان إلى عصر الهجرة وأما أن يكون أقل منه وإما أن يكون مساويا له فإن كان الزمان مذ كان إلى وقتنا هذا من الزمان مذ كان إلى وقت الهجرة فالكل أقل من الجزء والجزء أكثر من الكل وهذا هو الاختلاط وعين المحال إذ لا يخيل على أحد أن الكل أكثر من الجزء وهذا ما لا شك فيه ببديهة العمل وضرورة الحس وإن كان مساويا له فالكل مساو للجزء وهذا عين المحال والتخليط وإن كان أكثر منه وهذا هو الذي لا شك فيه فالزمان مذ كان إلى وقت الهجرة ذو نهاية ومعنى الجزء إنما هو إبعاض الشيء ومعنى الكل إنما هو جملة الإيعاض فالكل والجزء واقعان في كل ذي أبعاض والعالم ذو أبعاض هكذا توجد حاملاته ومحمولاته وأزمانها فالعالم كل لا بعاضه وابعاضه أجزاء له والنهاية كما قدمنا لازمة لكل ذي كل وذي أجزاء والزمان هو مدة بقاء الجرم ساكنا أو متحركا ولو فارقه لم يكن الجرم موجودا ولا كان الزمان أيضا موجودا والجرم والزمان موجودان فكلاهما لم يفارق صاحبه والزمان ذو أول والجرم ذو أول وهذا مما لا أنفكاك له البتة وأما ما لم يأت بعد من زمان أو شخص أو عرض فليس كل ذلك شيئا فلا يقع على شيء من ذلك عدد ولا نهاية ولا يوصف بشيء أصلا لأنه لا وجود له بعد فإذا وجد لزمه حينئذ ما لزم سائر ما قد وجد من أجناسه وأنواعه من النهاية والعدد وغير ذلك من الصفات وأيضا فلا شك في أن ما وقع من الزمان ووجد من الزمان إلى يومنا هذا مساو لما من يومنا هذا إلى ما وقع من الزمان معكوسا وواجب فيه الزيادة بما يأتي من الزمان والمساوي لا يقع إلا في ذي نهاية فالزمان متناه ضرورة وقد ألزمت بعض الملحدين وهو ثابت بن محمد الجرجاني في هذا البرهان فأراد أن يعكسه على في بقاء الباري عز و جل ووجودنا إياه فأخبرته بأن هذا شغب ضعيف مضمحل ساقط لأن الباري تعالى ليس في زمان ولا له مدة لأن الزمان إنما هو حركة كل ذي الزمان وانتقاله من مكان إلى مكان أو مدة بقائه ساكنا في مكان واحد والباري تعالى ليس متحركا ولا ساكنا ولاشك أنه ليس في زمان ولا له مدة ولا هو في مكان أصلا وليس هو جرما ولا جوهرا ولا عرضا ولا عددا ولا جنسا ولا نوعا ولا فصلا ولا شخصا ولا متحركا ولا ساكنا وإنما هو تعالى حق في ذاته موجود مطلق بمعنى أنه معلوم لا إله غيره واحد لا واحد في العالم سواه مخترع للموجودات كلها دونه لا يشبه شيئا من خلقه بوجه من الوجوه وبالله تعالى التوفيق

[justify]