ننقل هنا من كلام بعض العلماء ردودهم على الملاحدة فى إنكار الله ونبدأ ببعض ما كتبه ابن حزم :
قال أبو محمد رضي الله عنه لا يخلو العالم من أحد وجهين أما أن يكون لم يزل أو أن يكون محدثا لم يكن ثم كان فذهبت طائفة إلى أنه لم يزل وهم الدهرية وذهب سائر الناس إلى أنه محدث فنبتدئ بحول الله تعالى وقوته بإيراد كل حجة شغب بها القائلون بأن العالم لم يزل وتوفية اعتراضهم بها ثم نبين بحوله تعالى نقضها وفسادها فإذا بطل القول بأن العالم لم يزل وجب القول بالحدوث وصح إذ لا سبيل إلى وجه ثالث لكنا لا نقنع بذلك حتى نأتي بالبراهين الظاهرة والنتائج الموجبة والقضايا الضرورية على إثبات حدوث العالم ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
فما اعترضوا به أن قالوا لم نر شيئا حدث إلا من شيء أو في شيء فمن ادعى غير ذلك فقد ادعى ما لا يشاهد ولم يشاهد وقالوا أيضا لا يخلو محدث الأجسام الجواهر والأعراض وهي كل ما في العالم إن كان العالم محدثا من أن يكون أحدثه لأنه أو إحداثه لعلة
فإن كان لأنه فالعالم لم يزل لأن محدثه لم يزل وإذ هو علة خلقه فالعلة لا تفارق المعلول وما لم يفارق من لم يزل فهو أيضا لم يزل هو مثله بلا شك فالعالم لم يزل وإن كان أحدثه لعلة فتلك العلة لا تخلو من أحد وجهين أما أن تكون لم تزل وأما أن تكون محدثة فإن كانت لم تزل فمعلولها لم يزل فالعالم لم يزل

وان كانت تلك العلة محدثة لزم في حدوثها ما لزم في حدوث سائر الأشياء من أنه أحدثها لأنه أو لعلة فإن كان لعلة لزم ذلك أيضا في علة العلة وهكذا أبدأ وهذا يوجب وجود محدثات لا أوائل لها قالوا وهذا قولنا قالوا وإن كان أحدثها لأنه فهذا يوجب أن العلة لم تزل كما بينا آنفا وقالوا أيضا إن كان للأجسام محدث لم يخل من أحد ثلاثة أوجه إما أن يكون مثلها من جميع الوجوه لزم وأما أن يكون خلافها من دميع الوجود وأما أن يكون مثلها من بعض الوجوه وخلافها من بعض الوجوه قالوا فلن كان مثلها من جميع الوجوه لزم أن يكون محدثا مثلها وهكذا في محدثه أيضا أبدا وإن كان مثلها في بعض الوجوه لزمه أيضا من مماثلتها في ذلك البعض ما يلزمه من مماثلته لها في جميع الوجوه من الحدوث إذ الحدوث اللازم للبعض كازومه للكل ولا فرق وإن كان خلافها من جميع الوجوه فمحال أن يفعلها لأن هذا هو حقيقة الضد والمناقض إذ لا سبيل إلى أن يفعل الشيء خلافه من جميع الوجوه كما لا تفعل النار التبريد وقالوا أيضا لا يخلو إن كان للعالم فاعل من أن يكون فعله لإحراز منفعة أو لدفع مضرة أو طباعا أو لا لشيء من ذلك قالوا فإن كان فعله لإحراز منفعة أو لدفع مضرة فهو محل للمنافع والمضار وهذه صفة المحدثات عندكم فهو محدث مثلها قالوا وإن كان فعله طباعا فالطباع موجبة لما حدث بها ففعله لم يزل معه قالوا وإن كان فعله لا لشيء من ذلك فهذا لا يعقل وما خرج عن المعقول فمحال وقالوا أيضا لو كانت الأجسام محدثة لكان محدثها قبل أن يحدثها فاعلا لتركها قالوا وتركها لا يخلو من أن يكو جسما أو عرضا وهذا يوجب أن الأجسام والأعراض لم تزل موجودة
قال أبو محمد رضي الله عنه فهذه المشاغب الخمس هي كل ما عول عليه القائلون بالدهر قد تقصيناها لهم ونحن إن شاء الله نبدأ بحول الله وقوته في مناظرتهم فننقضها واحدا واحدا
إفساد الإعتراض الأول قال أبو محمد رضي الله عنه يقال وبالله التوفيق والعون لمن قال لم نر شيئا حدث إلا من شيء أو في شيء هل تدرك حقيقة شيء عندكم من غير طريق الرؤية والمشاهدة أو لا يدرك شيء من الحقائق إلا من طريق الرؤية فقط فإن قالوا انه قد تدرك الحقائق من غير طريق الرؤية والمشاهدة تركوا استدلالهم وأفسدوه إذ قد أوجبوا وجود أشياء من غير طريق الرؤية والمشاهدة وقد نفوا ذلك قبل هذا فإذا صاروا إلى الاستدلال نوظروا في ذلك إلا أن دليلهم هذا على كل حال قد بطل بحمد الله تعالى فإن قالوا لا بل لا يدرك شيء إلا من طريق المشاهدة قيل لهم فهل شاهدتم شيئا قط لم يزل فلا بد من نعم أو لا فإن قالوا لا
وصدقوا وأبطلوا استدلالهم وإن قالوا نعم كابروا وادعوا مالا سبيل إلى مشاهدته إذ مشاهدة قائل هذا القول للأشياء هي ذات أول بلا شك وذو الأول هو غير الذي لم يزل لأن الذي لم يزل هو الذي لا أول له ولا سبيل إلى أن يشاهد ماله أول مالا أول له مشاهدة متصلة فبطل هذا الاستدلال على كل وجه والحمد لله رب العالمين
إفساد الاعتراض الثاني قال أبو محمد رضي الله عنه ويقال لمن قال لا يخلو من أن بفعل لأنه أو لعلة هذه قسمة ناقصة وينقص منها القسم الثالث وهو لأنه فعل لا لأنه ولا لعلة أصلا لكن كما شاء لأن كلا القسمين المذكورين أولا وهما أنه فعل لأنه أو لعلة قد بطلا بما قدمنا هنالك إذ العلة توجب إما الفعل أو الترك وهو تعالى يفعل ولا يفعل فصح بذلك أنه لا علة لفعله أصلا ولا لتركه البتة فبطل هذا الشغب والحمد لله رب العالمين
فإن قالوا إن ترك الباري تعالى في الأزل فعل منه للترك ففعله الذي هو الترك لم يزل قلنا وبالله تعالى التوفيق إن ترك الباري تعالى الفعل ليس فعلا أصلا على ما نبين في فساد الاعتراض الخامس إن شاء الله تعالى